"بعد أن يسدل الستار".. رواية تناقش مشاعر الإنسان ما بين الواقع والفن

بأدوات مسرحية ومشاهد نابضة، يطرح الكاتب المصري عمرو عافية، التقاطعات بين مشاعر الفن، ومشاعر الواقع، التي تصنع الفارق، في شخصية الإنسان، وتجعله متقافزًا ما بين العقل والجنون، خلال روايته "بعد أن يسدل الستار" الصادرة عن دار العربي، 2023، التي فازت بجائزة أفضل رواية في مهرجان القاهرة الدولي للكتاب أخيرًا.

وتبني الرواية أحداثها حول شخصية "عبد الله"، الذي لم يظهر في الحوار مطلقًا، إذ تناوبت الشخصيات على تجسيد الشخصية وذكر مواصفاتها، ومنحها الشكل والمضمون عبر الحوارات، والسرد المونولوجي الخاص بكل شخصية.

فيكون مصمم الديكور عبد الله، هو الحالة المدهشة التي يتحدث عنها الجميع، إذ إن الشخصيات كافة تسقط في حبّه، لكنه يختفي بعيدًا عن أضواء العرض الروائي كجسد، وتبقى صورته الذهنية، متداولة بين أيدي الجميع.

إن مجمل الأحداث يتشكل في دائرة العروض المسرحية التي تقوم بها عائلة "عاكف"، إذ تعرض زوجته النجمة ناهد وأختها سلوى، بالإضافة لممثلين آخرين مسرحية كلاسيكية، ويقوم عبد الله الأخ الصغير لعاكف بإعداد وتصميم الديكورات الخاصة بالعروض.

بؤرة

لكن النقطة البؤرية التي تنقلب من خلالها الأحداث، وتتجسد من بعدها مشاعر الشخصيات جميعها، هي حدث اختفاء عبد الله، وهي لحظة تمَّت في الماضي، إذ يقوم الكاتب بسرد التفاصيل الخاصة باختفائه، عبر أداة الفلاش باك، متيحًا لكل شخصية صوتها الخاص خلال السرد، لإيضاح مشاعرها تجاه عبد الله.

وخلال هذه المساحة تتضح صفات أخرى كامنة داخل الشخصيات حول ذات كل منها، بما في ذلك الأسئلة الوجودية، والعلاقة الشائكة بالعالم.

متاهة

يتجسد مدخل المتاهة داخل السرد منذ البداية، بظهور شخصية "عادل الصعيدي"، الذي يبدو هو الآخر تائهًا، خلال مقارنته بين صفات شخصيته، وصفات عبد الله، إذ يضع الكاتب الثيمات المشتركة فيما بينهما، كأداة للتساؤل والشك، لدى القارئ منذ البداية، كما يبدو عادل تائهًا في تجهيز نفسه للحياة، بعد الحروب الذاتية التي خاضها متفردًا، والحروب الجماعية، خلال مشاركته في حرب اليمن ستينيات القرن الماضي.

❞ ﺇﺫﻥ انتهتْ بالنسبة لي حربٌ وسأبدأ أنا حربًا جديدةً في جبهةٍ أخرى، تركتُ بغير إرادتي اليمنَ السعيدَ الذي يُتعسُنا، رغم أنني ذهبتُ إليه متطوعًا بإرادتي، اليمنُ حربٌ بلا خرائط ولا استعداد، وأماكن نجهلها تمام الجهل❝.

إن حرب عادل الجديدة، كانت غامضة، ووضعها الكاتب في طريق السرد، ليكون عادل، هو الصورة التي تظهر لتضع أحد أشكال الغموض السردي، فمن هو عادل؟ وما الروابط الشخصية بينه وبين عبد الله الذي يتحدث عنه الجميع؟ ولماذا جاء من بعيد يقتحم حياة العائلة، ليحل محله وينام في سريره؟

خليط أوراق

الرواية خليط لأوراق لعب من نوعين، روائي ومسرحي، فيحمل الكاتب ما بين يديه كومة الأوراق، وكأنما بشكل عشوائي يخرج الورقة، فإن كانت روائية، يفتح ممر السرد، فتنطلق الحكايات والأحداث وهويات الشخصيات، وإن كانت مسرحية، يفتح الستار ويعتلي الممثلون الخشبة، بأجسادهم وصرخاتهم، والعبارات المسرحية الخالدة، من المسرح العالمي.

وإذا ما أردنا إعطاء ملخص لما يدور في "بعد أن يسدل الستار" فيمكن القول إنها لعبة شك لا تتوقف عن الإيهام للقارئ.

وبطريقة الحاوي، يُخرج الكاتب من جرابه عناصر التغبيش، حول حقيقة الشخصيات، سواء في التقاطع، أو التطابق، أو التوأمة، فشخصية عبد الله، وشخصية عادل بقيتا حتى مشوار طويل من الرواية تصنعان حالة إرباك، وهو ما يعد من أساليب التشويق السردي، بل التمويع، وخلق الجدل.

ويبدو المكان حجر أساس في ترتيب وتهيئة الشروط السردية عند عمرو عافية، فكان البحر بصفاته المتقلبة، والغامضة، التي تعطي في مجملها شكل المتاهة.

هكذا كانت سردية عمرو عافية، متاهة محكمة على شخصيات ست، هي: عبد الله، وتحية، وعادل، وسلوى، وناهد، وعاكف، ولكل منهم طريقته في الدمج ما بين واقعه وأحلامه، ما بين الفن والحياة.

غرق

فتبدو ناهد الممثلة المسرحية شخصية أسطورية داخل السرد، تعيش منكسرة داخل ذاتها، وتصنع الوهم وتكرره، داخلها، فقط من أجل النجاة.

فالغرق يحيط بشخصية ناهد وكأنها على مقربة من النهاية، وبذراعيها، تحاول أن تبقي على جزء أخير من صحتها النفسية، عبر الحب غير المفهوم الذي تكنّه لعادل الأخ الأصغر لزوجها عاكف العاجز جنسيًّا، وعبر تمسكها بقناعة أخيرة، أنها بقيت طازجة كما كانت من قبل أن يلاحقها المعجبون، بكلمات الغزل.

تناوب وتداخل

إن لغة السرد داخل الرواية، حملت أكثر من طابع، فما بين صوت الراوي وأصوات الشخصيات، وتقنيات الحوار المختلطة بالطابع المسرحي، حمّل الكاتب عافية لغته بالصوت الشعري، والمسرحي، فكانت اللغة في فقرات مبنية على التصوير، بهدف تقديم مشاهد متكاملة، فيما كانت هنالك مساحة، للتناوب، والتداخل، بين شكل المسرح والرواية، عبر تسمية عناوين لفصول المسرحية، وتفصيل المشاهد داخل كل فصل.

لكن طريقة الكاتب على مدار 330 صفحة من القطع المتوسط، مالت إلى الوصف الكلاسيكي المفصل، حتى أن الكاتب وصف المربعات في ملابس البطلة، وهو ما أبطأ من حركة السرد، وجعله رتيبًا، مكررًا، في بعض المناطق.

المسرح وهم

وتنطلق رؤية العمل نحو المقارنة ما بين مشاعر الإنسان داخل القالب الفني، كالمسرح والرواية، وما بين مشاعر الإنسان في الواقع، حيث يأخذ التشكيل المسرحي بأدواته، وتاريخه، ومشاعره، مساحة كبيرة داخل العمل، وهو ما ينعكس على شكل السرد، وأسلوبية الشخصيات في الحوارات.

فخلال الحديث عن المسرح يقول الكاتب على لسان ناهد "قد يكون له جماله للمشاهد، لكن بالنسبة لنا نحن الممثلين بشع. لأنه يُذكّرنا أنه توجد حياة خارج خشبة المسرح. حياة عادية تؤثر فينا أحداثها. على المسرح نحن حقيقة أحياء. فلو ذكرنا أننا بشر عاديون فانون… أيّ انهيار لمكانتنا"، ويكتب أيضاً: ❞المسرح وهمٌ يُنقذنا من وهمٍ أكبر منه ❝.

كشف الأسرار

يأتي الظهور الأخير لعبد الله في نهاية الرواية ليكشف عن سلسلة الغموض التي صنعها الكاتب طيلة زمن السرد، بدا عبد الله كناقد للعمل برمّته، ومنقبًا عن سلوكيات الشخصيات، فكان العين المختبئة في مكان ما على مسرح العمل، يراقب الأحداث وسلوكيات الشخصيات، ليبدأ سرده الخاص، ويكشف تقاطعات شخصيته مع شخصية عادل والآخرين.