عاجل

هيئة البث: الجيش الإسرائيلي سيدرب قوات البحرية على القتال البري بسبب نقص المقاتلين

logo
ثقافة

محمد نجيب محمد علي: قصيدة التفعيلة تحتمل فوضى العالم

محمد نجيب محمد علي: قصيدة التفعيلة تحتمل فوضى العالم
21 مارس 2023، 5:10 ص

ينتمي الشاعر السوداني محمد نجيب محمد علي إلى جيل الشعراء الذي حاول أن يخلق عوالم متميزة تخصه، باحثا بذلك عن" قصيدة أخرى أفلتت من أمراء الشعراء في عصرنا والسالف"، حسب وصفه.

ويقول نجيب محمد علي، في حوار مع "إرم نيوز"، إن قصيدة التفعيلة بوسعها أن تحمل كل فوضى هذا العالم وترتبه، ولكل قصيدة لحن يجري بدمها.

ومحمد نجيب محمد علي شاعر سوداني، حصل عام 2021 على "جائزة الطيب صالح العالمية للشعر"، ومن أعماله: "تعاويذ على شرفات الليل"، و"ضد الإحباط"، و"نداء الأجنحة"، و"دم العاصفة"، و"أناشيد الأسئلة"، و"حوارات في تدابير الراهن الثقافي"، وغيرها.

ربما أكثر ما يطربني في التفعيلة أنها لا تعدو في صحراء قاحلة لأنها إن فعلت ذلك تموت، قصيدة التفعيلة تحتمل كل فوضى هذا العالم لذا هي ترتب كل شيء.

تعد من الشعراء الذين أحدثوا إنقلابا في مسار الأغنية السودانية.. كيف أسهمت أغنية "بتذكرك " في اكتشاف هذه الموهبة لدى الجمهور السوداني؟

أنا من جيل مغامر يرفض الأسوار والحصون ويحاول دائما القفز فوق الحواجز وتسلق سنام أشواكها من أجل الوصول إلى الضوء الذي هناك، الضوء الذي لم يبلغه الشعراء من قبل.. أفتش في كل الجهات والاتجاهات من أجل حرف وإيقاع نسيه الكلام ولم يقربه لسان أو سنان.. أجرب ما استطعت وأطرق كل الأبواب دون أن يؤذن لي.. ذلك لا يهمني.

في البدء أخذني فصيح اللغة فأبحرت في أمواج الخليل وبحوره وحين لم أغرق أخذت نفسي إلى أنهار الحداثة وشواطئها، ثم عدوت تحت الأشجار الكثيفة وعارية الأغصان.. كنت أرى العصافير والبنات الجميلات يحلقن بأجنحة من ريش الشجن والشوق، فقلت لنفسي لماذا لا أحلق أنا أيضا؟؟؟ وذلك ما كان..

فمددت أصابع الروح لأجمع ما تبعثر من كلام أهلي السودانيين وبساطة لهجاتهم وعاميتهم وكلامهم اليومي في الحب والعناق والغناء.. والحق أنني كنت أبحث عن كلمات أخرى وصورة أخرى وغزل آخر.. كنت حينها شافعا في أول الغرام والدراسة تلميذا مشاكسا في المدرسة الثانوية، جردتني إحداهن من هدوء قلبي وسكينته وأشعلت عود كبريتها في دمي ثم هربت بعرض الطريق فخرجت أبحث في طوله وأغني لها:

بتذكرك

وكت الكلام يصبح صعب

والليل يودر في الكلام

كنت حينها مجنونا صغيرا لا يزال يلعب بعيونه وأنفه وأصابعه من أجل ابتسامة كاملة، وكان من حظ هذه الأغنية أن وجدت مغنيا أستاذا في معهد الموسيقى اسمه أحمد شاويش مبدع يطرب نفسه قبل أن يطرب الجمهور فشدا بها فتناقلتها البيوت والجميلات وعشاق سبعينيات القرن الماضي، فحفظوها بأوراقهم وأشواقهم وما حفظوا إلا بعض اسمي حتى غازلتهم أغنياتي الأخرى.. مع السلامة واستنى يا حلم الصبا وتعالي معاي.. وووو



وصف أحد النقاد ديوانك "دم العاصفة " بامتلاكك ناصية المنطقة الحرة الواقعة بين ملكوت قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر.. كيف نجحت في هذه المراوحة بين الأسلوبين؟

مَن قال ذلك هو أحد أكبر النقاد الأستاذ عبد القدوس الخاتم الذي غادر عالمنا موجوعا بالكتابة والإبحار في عوالمها قبل أعوام قليلة. أنا يا سيدتي من جيل السبعينيات؛ ذلك الجيل الذي حاول أن يخلق له عوالم تخصه، سماواتها وشوارعها ونجومها وكواكبها، جيل كان متمردا على كل شيء ضد كل إحباط وموروث يبنى سجونه ويضع أغلاله على أبوابها.. كنا نحاول وباستمرار أن لا نكتب إلا من واقع تجارب نحياها ونموت بها، تجارب تضع بصماتها في الروح والذاكرة وما تشتهي منا..

كنا باختصار نبحث في زحام اللغة عما يخصنا وما يشبهنا عن الصورة التي نرى فيها أنفسنا، لم نكن نشتهي أن يصفق لنا الجمهور بقدر ما كنا ضد ما اعتاد عليه الجمهور.. كنا نحاول أن نهشم ما نراه لا يطربنا لنعيد بناءه من جديد.. بشكل آخر أكثر جمالا وروعة.. كنا نبحث عن المستقبل الغائب والقادم غدا .. كنا نحاول أن نكون..

كل تجاربي تلك انطلقت من ذلك المفهوم.. البحث عن قصيدة أخرى أفلتت من المتنبي ودرويش وأدونيس وأمراء الشعراء في عصرنا والسالف، لا أخفي عليك كانت تجارب باهظة الثمن، هنالك من الأصدقاء من دفعوا أرواحهم ثمنا لها مثل القاص سامي يوسف غبريال وغيرهم، وهنالك من فروا خارج التجربة وصمتوا وكتبت لهم النجاة.. أما أنا لا أزال أحمل نعشى وأبحث عن قبري الذي سأولد فيه.



لماذا هذا الإخلاص لتقنية الشعر الحر أو ما يسمى بتقنية "التفعيلة " في خطابك الشعري؟ هل تمنحك المساحة أكثر لنقل هموم وقضايا مجتمعك؟

أنا مع الحداثة، مع التجديد، مع الولادات التي لا تجعلنا ضحايا، ولست ضد القصيدة كيف جاءت وكيفما تشتهى، ولكني لا أحب القصائد المعلبة التي تقضي عمرها كله في زنازين الحكم المؤبد أسيرة وكسيرة.. القصيدة يا سيدتي تكتب نفسها وحدها هي جحيم الشاعر وأزهاره كما قال بودلير.. في الجحيم أيضا يوجد نعيم ما.. كما في النعيم جحيم.. هكذا هي الحياة في رحلتها.

نحن الآن في زمن النص المفتوح.. النص الذي يحتوي كل الأجناس دون عناد وخبل.. القصيدة أصبحت رواية وقصة ومسرحية وقصيدة.. هذا نبض الراهن.. والتفعيلة تقبل كل ذلك، حتى اللوحة يمكن أن تكون بيتا في القصيدة.. ربما أكثر ما يطربني في التفعيلة أنها لا تعدو في صحراء قاحلة لأنها إن فعلت ذلك تموت، قصيدة التفعيلة تحتمل كل فوضى هذا العالم لذا هي ترتب كل شيء.

بعض قصائدي جعلتني أبكي وبعضها جعلتني أمشي مجنونا في الشوارع وبعضها وبعضها فعلت ما فعلت.

تتميز كشاعر حسب نقاد بمقدرة هائلة في تسريع حركة الإيقاع في قصائدك.. كيف تجعل من القصيدة ذات نغم لحني خاص؟

لكل قصيدة لحن يجري بدمها، والشعر مثلما قال اليوت هو محاولة تحويل الدم إلى حبر. وهو هو جنين الكلام الذي يولد كاملا بلسانه وعيونه وأنفه وأقدامه، يمشي ويعدو كيف ما نادى عليه أبوه أو أمه، يصرخ ويضحك ملء روحه..

القصيدة إيقاعها جزء أصيل منها إن غاب مات نصفها وأكثر.. أنا لا أصدق أن هنالك قصيدة تولد دون إيقاع ولحن وطبول وهمسات ولمسات ووشوشة. لكل قصيدة حفلة عرس وزفاف وملائكة وشياطين يغنون لها..

يا سيدتي لست أنا من يختار لحن القصيدة أو إيقاعها هي من تفعل ذلك وحدها دون أن تسألني حتى.. ألا ترين كيف يتعذب الشاعر وهو يكتب.. بعض قصائدي جعلتني أبكي وبعضها جعلتني أمشي مجنونا في الشوارع وبعضها وبعضها فعلت ما فعلت.. ما أنا إلا إيقاع تكتبني قصائدي.



حصلت على جائزة الطيب صالح سنة 2021 عن ديوانك " أناشيد الأسئلة".. أي أسئلة طرحتها في هذا الديوان؟ وما أثر الجوائز على الحركة الشعرية والأدبية عموما؟

دون شك، دراستي وتخصصي في مادة الدراسات الفلسفية كان لها أثر كبير في كتاباتي ومفهومي للوجود وأسئلته، وهذا الأثر يبدو واضحا في نصوصي الشعرية التي تشكل رؤيتي وأسئلة الحب والحياة والموت والوجود.. كل ذلك كان في يوميات أناشيد الأسئلة، التي لم تجد إجاباتها بعد، وهذه الأسئلة لا تنفصل عن الواقع إنما هي جزء مهم منه..

أسئلة القصيدة في ظني لا تنتهي لأنها لا تجد إجابات يسلم بها وكل سؤال يقود إلى سؤال آخر، وهذه الحياة كلها أسئلة لن تتوقف حتى يغادرها ملك الموت، ربما هذه الأسئلة هي التي منحت الأناشيد جائزتها لأن ما يميز هذه الجائزة جائزة الطيب صالح أن المحكمين من عدة دول ومن مشارب فكرية مختلفة، وفوزها دون شك أبهجني كثيرا وأطربني وأحسبني أنتظر جوائز أخرى للشعر..

الشعر عندي مهنة الوجود والحياة.. أنا لست ناظما ولست عاطلا عن التأمل والتفكر والسباحة في عوالم الرؤى البعيدة والقريبة، وأعتقد أن للجوائز أهمية بالغة هي تفتح نوافذ أخرى لمدى الصوت الشعري، فالعالم بالشعر يمكن أن يصبح قرية صغيرة مزدهرة وحية وبهية بمساحة الإنسانية كلها.. الجوائز أيضا تعين الشاعر في أمور الحياة وتحفزه للآتي.. للعمل بجد لبناء المستقبل والسلام والعافية، وهي بجانب ذلك أيضا تضيء للنصوص التي لم تولد بعد.

كيف تقيم التجربة الشعرية السودانية في السنوات الأخيرة؟

السودان يمر بكثير من المنحنيات والمنعرجات وحالات عدم السكون، تتشكل فيه الكثير من الحيوات، وانفلاتات الروح وجنونها. وتبعا لذلك هناك الكثير من التحولات الثقافية التي تصارع أميتها وتحاول أن تبني لها بيتا جديدا تأوي إليه.

لا أخفي عليك أن بوابات مطار الخرطوم صارت تودع الخارجين من الوطن أكثر من أن تستقبل القادمين. نحن نمر بمرحلة عصف من الجنون والحلم، نبحث عن السلام والجنة المفقودة، والتجربة الشعرية تواجه الخسوف والكسوف في فضاء تنبت فيه أشجار العنب والمانجو وتأكل منه الشياطين.. هل سننجو؟ ربما يفعل الشعر ذلك ويؤسس لولادة حتما ستأتي.. ستفعل الرواية أيضا ذلك واللوحة والمسرحية وووو.

أرى في آخر النفق ضوءًا.. حتما سنبلغ نوره.. حتما سنتسلق أشجاره.. حتما سنغني يوما حين يتحقق السلام والأمن والعافية.. وحين يغادرنا البعوض الذي يتغذى من هياكل الأجساد الهزيلة.. يا سيدتي الشعراء الذين يكتبون خارج الوطن حققوا إنجازات لا تحصى، لكن الذين لا يزالون داخل الوطن ينتظرون بأمل حارق ويدفعون ضريبة ذلك.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة ©️ 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC