logo
ثقافة

رواية "لسع الثلج" للسوري طه خليل.. أرشيف الخيبات

رواية "لسع الثلج" للسوري طه خليل.. أرشيف الخيبات
29 مارس 2023، 12:15 م

يرسم الشاعر السوري طه خليل في تجربته الروائية الأولى "لسع الثلج" دروب الخيبات التي تمتد من جبال كردستان التي يحج إليها شباب وشابات في ريعان الصبا بحثا عن رحيق الحرية، إلى جبال سويسرا حيث تسيل الحرية "ضاحكة" على منحدراتها التي يرتادها المسنون والمشاهير لترميم شروخ العمر، والاستمتاع ببياض الثلج ولسعه اللذيذ.

بين هاتين المحطتين، سنعيش مع بطل الرواية "يارو" فصولا من الانكسارات والأحلام المجهضة، تقودنا إلى قرية حسوكا "الأسطورية" التي تذكرنا بـ"ماكوندو ماركيز"، وواقعيته السحرية حيث تتلاشى الحدود بين الحقيقة والوهم، والقامشلي تلك المدينة المثقلة بتاريخ حافل بمفكرة الخسارات الكثيرة، وإلى دمشق التي تقطر عذوبة وترفل بالياسمين، والسلمية، مدينة محمد الماغوط المنسية على تخوم الصحراء، لكنها استطاعت أن تسقي رضاب القبلة الأولى لعشاق عطشى.

على صفحات الرواية، سنعرف حكاية الحاج توفو، والد يارو، الرجل الناقم على كل شيء بدءا من دجاجات البيت وصولا إلى عمامة إمام الجامع.

الرواية الصادرة، أخيرا، عن دار نفرتيتي (القاهرة) لا تدع للقارئ فرصة لالتقاط الأنفاس، فطه خليل يسعى إلى قول كل شيء دفعة واحدة، عبر سرد محموم؛ متواصل وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح، مستعيدا خيبات البطل المهزوم "يارو" الذي استفاق باكرا على الشعارات الكبرى والقضايا المصيرية والهتافات الأممية، لينتهي مكسور الروح في غرفة ضيقة بين أحضان فتاة تختزل في حنان نظرتها، كل نظريات "الديالكتيك" التي كانت قد منحت "يارو" ورفاقه أملا بالعدالة والرخاء وسعادة البشرية...

"لسع الثلج"، بهذا المعنى، ليست حكاية واحدة لها مقدمة ومتن وخاتمة، بل مجموعة حكايات تمتد على مدى نحو ثلاثة عقود، لتكتمل بعد مئتي صفحة على شكل "موزاييك مسبوك بعناية، يقدم ملمحا عن صورة المجتمع السوري وشماله الحزين.

وهذه الحكايات لا تروى وفق ترتيب زمني متسلسل، بل تتداخل الأزمنة والأمكنة وفق ما تمليه ذاكرة يارو المشوشة، فالبطل يكتفي بفتح "أرشيف الخسارات" المتراكمة، ويشرع في الإنشاد، فتتزاحم الوقائع، كيفما اتفق.

على صفحات الرواية، سنعرف حكاية الحاج توفو، والد يارو، الرجل الناقم على كل شيء بدءا من دجاجات البيت وصولا إلى عمامة إمام الجامع. صوته الجهوري الجاف يؤذن بميلاد يوم عاصف جديد في قرية حسوكا التي يصلي سكانها بخشوع في انتظار رسالة إلهية غامضة تنتشلهم من هذا البؤس.

شخصيات تراجيدية بدت وكأنها قادمة من إحدى المآسي الإغريقية؛ تبكي في أواخر الليل باحثة في مجاهل الظلمة عن نسغ الحياة. وجوه متعبة تعيد الى الأذهان أجواء رواية "ماتوا ورؤوسهم محنية" للسينمائي الكردي يلماز غوني..

سنتعرف مع يارو، في غرامياته "غير المواتية" إلى ليلى سليلة الآشوريين وهي تحرس على ضفاف الخابور أطياف أسلافها المبهمة، وإلى هيلا الكردية، حفيدة الأيوبيين.

وسنمعن النظر طويلا في نقوش سلمى على الوسائد، وهي ترسم الوعول والحجل وطيور القطا وكل كائنات الارض وطيور السماء التي ترمز إلى التحليق والطيران، فتلك هي الحيلة الوحيدة المتاحة لمعانقة نهارات أكثر رأفة...

وسنصغي كذلك إلى حكاية الضابط إسماعيل، الشخصية الدرامية التي تأخذ حيزا واسعا في الرواية، ذلك أن قصته تختزل مأساة من نوع آخر تعيدنا إلى مدينة حماة في ثمانينيات القرن الماضي والمعارك التي دارت هناك للقضاء على حركة الإخوان المسلمين.

إسماعيل "العلوي" تورط، من حيث لا يرغب، في امتحان شديد القسوة، فكان عليه أن يختار بين حب مستحيل وحرب عبثية فرضت عليه، غير أنه انحاز، في النهاية، لنزعته الإنسانية، إذ رفض الأمر العسكري بقصف نافذة حبيبته هبة "السنية" في الحي الحموي، وبدلا من ذلك أطلق الرصاص على يده التي بترت، وخرج من المعركة. فضل إسماعيل أن يعيش بلا يد من أن يعيش بلا قلب.

وسنرافق في الرواية يارو إلى جبال كردستان، في رحلة مليئة بالخوف والتحدي والأمل، رحلة يمكن أن تفقد فيها رفيقا كان منذ لحظات يمشي قربك بمرح، ويمكن أن تفقد فيها فتاة مشط قدمها بفعل الثلج بعد أن كانت تعدو منذ لحظات كغزالة..

هنا في تلك المنحدرات الجبلية الوعرة التي تشبه طريق الجلجلة، تتفتح كل جروح التاريخ الكردي أمام خطوات يارو وهو يرتقي قمم الجبال بحثا عن وطن قرأ عنه الكثير في الكتب، لكنه لم يعثر عليه يوما على أرض الواقع. وها هو الآن يحمل بندقيته على كتفه المائلة، ويسير على أمل معانقة ذاك الوطن الحلم..



في هذه الرحلة أيضا لا جديد، بل حسرة كردية أخرى، ومحنة جديدة لا يجد يارو فيها سندا سوى شبح صلاح الدين الأيوبي الذي يواسيه ويعيده مجددا إلى حيث ضريحه في دمشق. وللحب في الرواية مذاق آخر، فلا نهايات سعيدة له، بل شغف مر له مذاق السفرجل الحجري الذي تمضغه طويلا بين اسنانك دون أن تتحسس طعم الحلاوة. شيء يذكرنا بافتتاحية رواية ماركيز "الحب في زمن الكوليرا"، حيث يقول: "لا مناص! فرائحة اللوز المر كانت تذكره دوما بمصير الغراميات غير المواتية".

سنتعرف مع يارو، في غرامياته "غير المواتية" إلى ليلى سليلة الآشوريين وهي تحرس على ضفاف الخابور أطياف أسلافها المبهمة، وإلى هيلا الكردية، حفيدة الأيوبيين، سنصغي إلى قاموس جديد للنضال من أجل عالم أفضل، ومع فليتسيا السويسرية سيصل يارو إلى يقين أن لا معنى آخر للحياة سوى يد حانية، خالية من الأيديولوجيات وصراع الطبقات وقدسية الأوطان... يد تربت على كتفك برفق وتفتح زهرة القطن الخبيئة في روحك، فتزهر الحياة بيضاء، بيضاء...

وبدا خليل في روايته هذه أمينا لمنجره الشعري، فقد جاءت هذه الرواية بعد مجموعة دواوين شعرية، فلم يقوَ الشاعر على أن يهجر تلك اللغة الشعرية التي استعار الكثير من تراكيبها وصورها في نثره هذا، على أن هذه اللغة الشعرية خدمت الرواية ومنحتها جماليات إضافية.

تأتي اللغة الشعرية أحيانا عبئا على الرواية، غير أن لغة طه خليل في روايته هذه لم تأت نافرة بل بدت متناغمة من عوالم هذه الرواية التي تروي قصص الحب والصداقة والسفر وقائمة طويلة من الخيبات والمحن التي لا يمكن التعبير عنها سوى بمفردات وقوالب سردية طيعة لا تنقل عصارة التجربة فحسب، بل ظلالها المحفورة في وجدان بطل الرواية.

ومن المعروف أن الرواية تتيح فضاء سرديا مختلفا عن الشعر، ففي الرواية ثمة بلاغة من نوع آخر تقود القلم إلى المكاشفة والبوح والاسترسال من دون التستر خلف الكنايات والاستعارات والزخرفة اللفظية والصور المتخيلة المغرقة في الذاتية..

وهذا ما فعله خليل في روايته "لسع الثلج"، إذ يفتح القوس واسعا أمام فضيلة الروي، ليودع في "لسع الثلج" قصصا طبعت ذاكرة جيل عرف متأخرا أن الحياة أجمل في الهواء الطلق مما هو قائم بين دفتي كتاب، كما صور له ولأبناء جيله منظرو الماركسية وحراس المبادئ وفقهاء الظلام.        

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة ©️ 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC