قصف مدفعي إسرائيلي على بلدة يحمر شقيف بعد إطلاق 5 صواريخ من جنوب لبنان
تحت أضواء خافتة تحاكي هدوء المكان، ينبعث صوت الموسيقى من داخل مقهى "ليبرـ تي"، الفضاء الذي يستقطب يوميا المئات من الشبان من الطلاب والفنانين وهواة المطالعة وعشاق المسرح والسينما، ممن ينشدون ضالتهم بعيدا عن صخب المقاهي العادية وخارج أسوار ضجيج روادها ولغطهم.
ويخيل لكل من يرتاد مقهى "ليبرـ تي " وهو اسم مأخوذ من كلمتي "ليبر" الذي يحيل إلى معاني الحرية و "تي" أي الشاي، ليكون مدلوله يعبر بالنهاية عن الحرية.
تجربة جديدة للمقاهي
للوهلة الأولى يخيل إليك أن المقهى الواقع في منطقة "لافايات" في قلب العاصمة تونس هو فضاء لتناول المشروبات والطعام وتدخين النارجيلة (الشيشة) لكن الأمر يبدو أبعد من ذلك بكثير، إذ اختار مؤسسا الفضاء _وهما شقيقان توأمان، غسان ومحمد الأسعد العبيدي_ أن يتخلص المقهى من النمط التقليدي، وأن يكون فضاء لشرب القهوة وممارسة أنشطة ثقافية وفنية وحضور عروض إبداعية في سائر المجالات الثقافية.
مقهى "ليبرـ تي"، الذي تزين جدرانه الخارجية والداخلية لوحات فنية، ورسوم تشكيلية تسترعي أنظار العابرين، يبدو تجربة جديدة للمقاهي في تونس، تجربة تمتزج فيها القهوة التي يقدمها النادل داخل ذلك الفضاء مع حراك ثقافي لا يكاد يتوقف إلا ليبدأ من جديد في أشكال وأنماط عدة.
تشكل المقاهي الثقافية في تونس لونا جديدا ومختلفا لمثل تلك الفضاءات التي تتوافق مع النشاط الروتيني الذي يقتصر على توزيع المشروبات ولعب الورق لتقدم خدماتها في إطار فريد من نوعه فضلا عما يتضمنه الفضاء من مكونات ترمز للأدب والفنون والإبداعات.
مجازفة
في 2011، حين كانت تونس تعيش أول تداعيات ثورة الياسمين، قرر محمد الأسعد وهو مهندس، وشقيقه المحاسب غسان، أن يتركا منصبيهما في العمل وينشئا مشروعا متفردا، تمثل في مقهى، لا كغيره من المقاهي مثلما يصف محمد الأسعد.
ويقول محمد الأسعد (39 عاما) في حديثه لـ "إرم نيوز": "لا بد من القول إني وشقيقي التوأم غسان كنا نشتغل في شركتين خاصتين، كل في اختصاصه، ولكن فكرة إنشاء مقهى يخرج عن النمط المألوف لتوزيع المشروبات، كان يراودنا دائما.
ويضيف الأسعد "انطلقت الفكرة في سنة 2011، وبدأت بمقهى عادي ولكنه يوفر لرواده فرصة تبادل الأفكار والإبداعات الثقافية والاطلاع على تجارب في سائر الفنون وحضور عروض يؤمنها الفضاء، أطلقنا على المقهى إسم "ليبرـ تي" (الحرية)، وبدأت التجربة بخطى بطيئة، ولكن من شهر إلى آخر بدأنا نستقطب عشاق الثقافة وبدأ نشاطنا يتوسع."
ويضيف محمد الأسعد "اختيار هذا النوع من النشاط كان مجازفة في البداية خصوصا مع صعوبة ايجاد الإطار القانوني بحكم أنه لا يوجد قانون ينظم المقاهي الثقافية، وبالتالي لجأت مع شقيقي إلى إشاء الجمعية الثقافية للإبداع والتفكير الإيجابي وهي المنصة التي ترتكز عليها الأنشطة الثقافية في ليبرتي".
وبدأ نشاط مقهى الثقافة والفن والإبداع في استقطاب رواد همهم الأول الجلوس في مكان هادئ وفضاء يوفر أنشطة إبداعية تراوحت بين المسرح والسينما والأدب والمطالعة والموسيقي وفق ما يؤكده صاحب المشروع.
وبهدف تشجيع المبادرات الثقافية والإبداعية، منحت الأوساط الثقافية في تونس أهمية كبرى لمثل تلك الفضاءات، إذ تحصل مقهى "ليبرتي" في سنة 2017، ضمن مهرجان أيام قرطاج المسرحية على جائزة أفضل فضاء ثقافي مستقل يدعم المسرح.
لوحات فنية
وكشف صاحبا المقهى الثقافي عن دعم كبير وجداه من عائلتهما ومن أصدقائهما مؤكدين أنهما يشعران بالفخر بعد أن نجحا في تحد خاص وصعب خصوصا أن العروض الثقافية التي تعرض بالمقهى يتم إعدادها وتمويلها على نفقتهما الخاصة.
وقالا لـ "إرم نيوز": "حرفاؤنا أصبحوا يترددون بانتظام على المقهى بعد أن نجحنا في برمجة عدة عروض فنية وثقافية نالت إعجابهم".
وأضافا: "نحو 70% من مرتادي فضاء ليبرتي أصبحوا حرفاء أوفياء بعد أن حضروا أحد العروض، أقمنا حتى الآن أكثر من 900 عرض بين الموسيقى والسينما والأدب والمسرح والسينما، فضلا عن أن المقهى يضم جناحا للمطالعة يوجد به ما يزيد عن 2000 كتاب، كما نهدف لتنفيذ برنامج ثقافي لرواد المقهى بعنوان "غليان".
وعادة ما يكون حرفاء المقاهي الثقافية من الشباب، أو من المولعين بالفنون والأدب على اختلاف فئاتهم العمرية، أما الفضاء فيضم في الغالب أروقة للكتب كما تزين جدران المقهى لوحات فنية وتشكيلية لكبار الرسامين في العالم، فيما ينخرط رواد المقهى إما في مطالعة كتاب وإما رواية، أو تصفح شاشة الحاسوب المفتوحة أمامهم، أو طرح نقاشات حول مواضيع تشغل الرأي العام.
وتعمد بعض المقاهي الثقافية إلى تنظيم سهرات موسيقية أو مسامرات ليلية يعرض فيها الشعر والنثر فضلا عن عرض أفلام سينمائية أو وثائقية أو عروض للمسرح.
ولا يعرف تاريخ انطلاق المقاهي الثقافية في تونس ولكن بعض المصادر تقول إنها بدأت مطلع القرن العشرين من خلال مقهى "تحت السور" وهو ملتقى ثقافي وأدبي جمع أكبر الأدباء والمفكرين في تونس.
وتأسس مقهى تحت السور في الثلاثينيات من القرن الماضي في منطقة باب سويقة وسط العاصمة تونس، اكتسب هذا المقهى شهرة واسعة فيما بين سنتي 1929 و1943، لأنه كان ملتقى للمفكرين وكان يؤمه عدد من الأدباء والصحفيين والرسامين والفنّانين مثل علي الدوعاجي وعبد الرزاق كرباكة والهادي العبيدي ومصطفى خريّف ومحمد العريبي ومحمود بيرم التونسي وعبد العزيز العروي وغيرهم.وكان المقهى بالنسبة إليهم بمنزلة النادي الأدبي، فيه تجري المطارحات والمناقشات والأسمار الأدبية.
وألهمت تجربة المقاهي الثقافية الكثيرين لبعث فضاءات لا تقتصر على توزيع القهوة والشاي والمشروبات فحسب وإنما تمنح روادها فرصة للاستمتاع بعروض وأنشطة ثقافية أو لمطالعة الكتب وطرح مناقشات فكرية وأدبية، إذ تشير بعض التقارير إلى أن عدد المقاهي الثقافية في تونس يناهز الـ30 مقهى أكثر من نصفها في العاصمة تونس.