خمسة وعشرون عامًا مرت على رحيل "المعلم"، هكذا يسميه تشكيليّو اليوم، وتجربته لا تزال تنقر المخيلة، وتحثها على النهوض؛ ففاتح المدرس "1922- 1999" لم يكن عابرًا في الخيال، بل مولّد أفقٍ جديدة للذائقة، في ألوانه وخطوطه ودلالاته التعبيرية.
زيارة مرسم فاتح وسط العاصمة السورية دمشق، تكفي لإثارة أسئلة الحداثة العربية، بهمومها ونجاحاتها وآثامها كلها.
من هنا، يدلفُ المعلم عبر الممر الضيق المخضرّ باتجاه مرسمه مصنعِ الخيال كأن غابةً من الألوان تمشي وراءه.
المكان قريب من ساحة النجمة، وفاتح يلقي التحية على شجرة النارنج واليوغا والجوري قبل أن ينعطف يمينًا باتجاه الباب.
وفي حين يبدو المرسم نحيفًا، ولكنه يمتد بقوة للأمام كأن معادلةً هندسية سريّة، جمعت بين شكل فاتح والمكان.
هنا كان يرسم فاتح، وتلك هي فُرَش الألوان التي لا تزال تحمل آثار أصابعه لليوم. ترى ماذا كانت لوحته الأخيرة؟ وبماذا كان يفكر وهو يرسم على حائط المرسم، جداريةً شبيهة بالجنون؟
عبارات فاتح المختزلة، ما زالت على جدران المرسم لليوم، فهو الشاعر والقاص والرسام "هناك حيث أعيشُ الانتظار، ثم القتل..
أما هنا، القتل أولاً، ثم الانتظار"، هكذا كتب قرب لوحته الجدارية العام 1997، والآن، تماهت الرسمةُ مع حائط المرسم فحمته من أي تعديل؛ لأن فاتح أراده أن يظل هكذا.
الفنان عصام درويش، الموجود في المرسم دائمًا، حوّل المكان إلى جاليري، وهو اليوم يتعامل مع آثار فاتح، ككائنات لونية لم تبهت نضارتها، على الرغم من انقضاء ربع قرن من الأحداث والانقلابات في الفنون.
يقول عصام: "الراسخون لا يتبدلون"ويشير إلى أشياء فاتح ولونه الأزرق المفضل، الذي يراه أكثر ثورية من الأحمر.
يستقبل مرسم فاتح المدرس، الكثير من المعارض الفنية سنويًا وبدءًا من شهر ديسمبر يستطيع الزوار رؤية سعادة ألوان المدرس، وهي تستقبل تجارب الفنانين الشباب الذين شاؤوا اقتفاء أثر المعلم وفرد لوحاتهم لديه.
رفع فاتح، من مكانة اللون الأبيض، وقال إنه سيد اللوحة بينما الألوان ضيفة عليه لم يكن يحب الإفراط في الذهبي، بل يلجأ إليه فقط؛ لكبح جماح الاندفاع في الأحمر، لقد أعطى الأزرق وسام الحيوية فوصفه بالمقاتل والذكي، وبهذا جعله متقدمًا على الأحمر بكثير.
يحب زائرو المكان لمس مقتنيات فاتح وتحسس آثاره على الجدران، والتحديق بكرسي المكتب والعبارات التي تركها على الجدران، تُرى من أين أتى فاتح بهذا الخيال كله؟ هل من شقائق النعمان التي سحرته مذ كان طفلاً يجري في حقول الأرياف في حلب؟
مات فاتح في 28 يونيو 1999، واليوم تصل أسعار لوحاته إلى مئات الآلاف من الدولارات، وتتوزع أعماله اليوم في مختلف مناطق العالم. الدبلوماسي الألماني رودولف فيتشر صديق فاتح احتفظ بجزء منها، وكذلك الرئيس والتر شيل، الذي تعرّف إلى تجربة فاتح عبر فيتشر، وتحول إلى متعطش لها.
في الشام، هناك مجموعات موزعة عند الأصدقاء ومن محبي اقتناء اللوحات، علاوة على أعمال في متحف الفن الحديث في متحف دمشق الوطني، الذي ينتظر الجميع افتتاحه بشكل عصري ومختلف، تقديرًا لصنّاع الذائقة الثرّة.
يهدينا الفنان عصام درويش، صورة قديمة جمعته مع فاتح، ويقول: مدينونَ نحن، للمدرّس المعلم، الذي رشَّ دلاء ألوانه على العالم الرمادي، فجعله أقلّ شقاءً وقبحًا.
اقتفاء أثر فاتح المدرس عبر أشيائه وبين تضاريس المكان ليست مهمة سهلة، فاللون يفكر ويشعر ويحدّق.. كأنه يراكَ، ولستَ أنت من تراه.