في قلب الجنوب التونسي، حيث تلتقي الحضارة بنهاية الطريق وتبدأ الصحراء في سرد حكاياتها الأزلية، تكمن مدينة "دوز"، بوابة الصحراء وسيدة الشتاء..
هنا، حيث الهواء يحمل دفء الرمال بلمسة باردة، تصبح الرحلة في الصحراء مغامرة تتخطى حدود الزمن..
ورغم أن الصحراء تُحاكي في الأذهان حرارة لا تُحتمل، تأتي "دوز" لتقلب المعادلة، وتدعو المغامرين إلى احتضانها في أشهر الشتاء.
هذه المدينة، التي تغفو على أطراف الصحراء الكبرى، تُحول برد الشتاء إلى دفء روحي، يحمل في طياته رائحة التاريخ وصوت رياحه العتيقة، التي تتبادر على ألسنة شعرائها المشهورين بأداء "الشعر الشعبي".. ومن خلاله يطوّعون اللهجة "المرزوقية".. "بصمتهم" التي تمزج بين العربية الفصحى والتونسية..
دوز ليست مجرد محطة، إنها بوابة تنفتح على عالم الرمال الذهبية والكثبان العملاقة..
هناك، في العرق الشرقي الكبير، تحتضن السماء الرمال في رقصة أبدية، وكأنها سرٌّ من أسرار الكون. وأعلى هذه الكثبان، يقف الزائر مشدوها أمام مشهدٍ تتضاءل فيه الكلمات، ويصبح الوصف عبئا على عظمة المشهد..
تستقبل المدينة ضيوفها بحفاوة بدوية من قِبَل أهل المرازيق، الذين يجسدون بأرواحهم وتقاليدهم أصالة الأرض.. كما كانت تستقبل من قبل "حجّاج" المغرب والجزائر، كاستراحةٍ أساسية من عناء الطريق أيام العهد العثماني.
السوق الأسبوعي في ساحة القرية ينبض بالحياة والألوان، حيث تُباع الحرف اليدوية التي تُعبر عن صبر أجيال، وتمر نخيل "دوز" الذي يعد كنزاً يُقطف في نوفمبر، يُشكِّل مزيجاً ساحراً من النكهات التي تحكي قصصاً عن عادات المكان.
وفي رحلات الصحراء، حيث يسكن الهدوء وتخاطب السماء الزائرين بلغة النجوم، تتحول كل خطوة إلى قصيدة.. وبين الكثبان، تروي الرمال حكايات قديمة، بينما يُجهَّز "الطاجين" التقليدي في نار الموقد، تاركاً بصمته على الحواس..
وللشجعان، هناك فرصة لتذوق لحم "الجمل"، بينما يكتفي من يبحث عن الراحة بأطباق الدجاج أو اللحم البقري.
في نهاية العام، يُقام مهرجان الصحراء الدولي، حيث تذوب الفروق بين الثقافات في احتفال لا يُنسى. فرسانٌ يؤدون عروضاً بهلوانية على ظهور الخيل، وجِمال تتصارع في مشاهد تتحدى قوانين الطبيعة، كلها مشاهد تجعل دوز مسرحاً لأسطورة حية.
هنا، في دوز، لا تكون الرحلة مجرد مغامرة شتوية، بل لقاء مع روح الصحراء الخالدة، حيث يتحدث الرمل والهواء، ويُعيد الزائر اكتشاف ذاته بين طيّات الزمن...