الضربة الإسرائيلية الأخيرة لمواقع عسكرية عدة في طهران ومحيطها ومناطق أخرى، لم تحصل على نحو مفاجئ أو كخطوة واحدة، بل كانت نتيجة سلسلة متصاعدة من الضربات ضد الكوادر والمواقع الإيرانية في سوريا ولبنان، حيث مرت بعدد من المحطات قبل الوصول للضربة المركبة فجر 26 أكتوبر.
مقابل هذا التصاعد التدريجي في الضربات، حاولت إيران مرتين تحقيق الردع عبر ضربات واسعة بالصواريخ البالستية، إلا أن تلك الضربات لم تحقق المطلوب، ولم تمنع تصاعد الضربات الإسرائيلية وصولاً للوضع الحالي الذي يبدو فيه تبادل المزيد من الضربات الخطرة أعلى احتمالاً بكثير من استعادة إيران لصورة الردع السابقة.
الطريق إلى ضرب طهران
بدأت إسرائيل توجيه ضربات عسكرية للمصالح الإيرانية في سوريا في 2013 عبر استهداف شحنات الأسلحة التي تنقلها إيران عبر مطار دمشق الدولي لإيصالها إلى "حزب الله".
ويُقدر أن بضع مئات من هذه الضربات تكررت خلال العقد التالي. ويقدر أن حصيلة هذه الضربات، حتى أكتوبر2023، شملت مقتل حوالي 21 من عناصر الحرس الثوري الإيراني. غالبية هؤلاء كانوا من رتب متدنية، وكان قلة بينهم من رتب متوسطة، ولم يكن بينهم أي من الوجوه القيادية البارزة.
أبرز من استهدف في تلك الفترة العميد محمد علي الله دادي، في القنيطرة في 2014، وفي 2018 اغتيل 7 من عناصر الاتصالات في الحرس الثوري في قاعدة الشعيرات الجوية وسط سوريا.
وسائل الإعلام الإسرائيلية كانت تشير إلى مثل هذه العمليات بإستراتيجية "جز العشب" التي تهدف فقط إلى ضبط مستوى نمو القدرات الإيرانية في سوريا.
إيران من جانبها تعايشت مع هذه الضربات، واعتبرت أن الخيار الأفضل هو مضاعفة عمليات نقل الأسلحة إلى "حزب الله" وتعزيز الوجود العسكري الإيراني في سوريا، وذلك مع اعتقاد إيران أن إسرائيل لا تريد الحرب ولا حتى المواجهات المسلحة المحدودة.
فترة 2013-2023 شهدت كذلك انشغال إيران بالمفاوضات وصولاً إلى توقيع الاتفاق النووي في 2015 ومحاولة التوسع في التعاون البراغماتي مع إدارة أوباما، ثم أربع سنوات من الاشتباك مع إدارة دونالد ترامب، ثم أربع سنوات تعرضت فيها للتخدير من إدارة جو بايدن التي تحاورت معها، ورفعت التجميد عن بعض أصولها المالية، ولكنها دعمت إسرائيل في عملية تفكيك الردع الإيراني، خصوصاً عبر ضرب "حزب الله".
تغيير تدريجي
حصل تغيير قواعد اللعبة السابقة بالتدريج منذ تفجر الحرب في غزة. منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى 1 أبريل/نيسان (تاريخ ضرب القنصلية الإيرانية في دمشق)، نفذت إسرائيل 55 ضربة جوية في سورية ضد مواقع وأنشطة تخص إيران، وهذا يعادل ما قامت به إسرائيل في سورية طوال سنوات عدة سابقة.
ثلاثون من هذه الضربات نفذت في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام. الضربات الإسرائيلية انتقلت أول مرة لاستهداف قادة عسكريين كبار.ففي ديسمبر/كانون الأول 2023 نفذت ضربة جوية قضى فيها عدد من المستشارين الإيرانيين من رتب متوسطة.
وفي 2 يناير/كانون الثاني 2024، قتل مسؤول دعم محور المقاومة في سورية رضي موسوي، وهو أحد أقدم مستشاري الحرس الثوري في سورية. وفي 20 يناير/كانون الثاني 2024، قتل قائد استخبارات فيلق القدس في سورية مع نائبه وثلاثة عناصر آخرين. وفي 26 مارس/آذار قتل مستشار إيراني برتبة عقيد في دير الزور، يُعرف بـ"حاج عسكر".
وفي 1 أبريل/نيسان، استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل الجنرال محمد رضا زاهدي، ونائبه محمد هادي حاجي رحيمي (الذي كان سابقاً نائب منسق فيلق القدس)، وخمسة مستشارين آخرين هم حسين أمان اللهي، مهدي جلالتي، محسن صداقت، علي صالحي روزبهاني، علي آقا بابائي.
وتيرة العمليات الإسرائيلية في سورية منذ ضرب القنصلية الإيرانية استمرت بالتصاعد الكمي مع تنفيذ 155 ضربة إضافية، وبإجمالي 185 ضربة منذ بداية 2024. الضربات العسكرية الأهم كانت في منطقة مصياف في شمال غرب سورية والتي يقدر أنها شهدت 15 ضربة هذا العام.
الانتقال النوعي، منذ ضرب القنصلية الإيرانية، كان عبر رفع وتيرة استهداف كوادر وقدرات "حزب الله" والعمل على الأراضي الإيرانية نفسها. ففي 19 أبريل/نيسان ضربت إسرائيل بطارية "S-300" – وهي واحدة من أربع بطاريات تمتلكها إيران.
وفي 30 يوليو/تموز، اغتالت إسرائيل إسماعيل هنية في مقر الضيافة الرسمي في طهران. المشترك بين العملتين هو أن إسرائيل لم تعلن مسؤوليتها رسمياً عن تنفيذهما. ولكن هذا تغير في الضربة الأخيرة التي نفذتها إسرائيل فجر 26 أكتوبر/تشرين الأول، والتي تشير التقديرات الأمريكية إلى أنها حيدت البطاريات الثلاث المتبقية من طراز "S-300" ورادارات إنذار مبكر في غرب إيران، فضلاً عن استهداف مواقع عدة لتصنيع محركات الصواريخ البالستية، خصوصاً في قاعدة بارشين، وكذلك مصنعاً لمكونات الطائرات المسيرة.
فقدان الردع
تنفيذ الضربة الأخيرة، بالرغم من التحذيرات الإيرانية، والجولات المكوكية التي قام بها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في المنطقة، يشير إلى عدم نجاح الرهان الإيراني على استعادة الردع بعد الضربتين الكبيرتين التي نفذتهما ضد إسرائيل في 13 أبريل/نيسان و1 أكتوبر/تشرين الأول. فشل إيران بتحقيق الردع يشبه فشل "حزب الله" سابقاً بردع إسرائيل.
فإسرائيل عملت تدريجياً منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على خرق الخطوط الحمراء التي أعلنها "حزب الله" بعد انتهاء حرب 2006. التدرج الإسرائيلي شمل بدء استخدام الخيار العسكري بحد نفسه، ثم اغتيال قيادات فلسطينية (صالح العاروري في الضاحية الجنوبية في يناير/كانون الثاني 2024) ثم بدء اغتيال القيادات العسكرية الكبيرة (قادة وحدات "الرضوان" و"نصر" و"عزيز") وصولاً لاغتيال مسؤول العمليات فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية. ثم تكرار استهداف الضاحية وصولاً لإعلان الحرب المفتوحة في 23 سبتمبر/أيلول واغتيال الأمين العام لـ"حزب الله".
التصاعد في الضربات الإسرائيلية لإيران – من استهداف القيادات العسكرية خارج الأراضي الإيرانية ثم استهداف القنصلية في دمشق وما تعنيه من استهداف الأراضي الإيرانية وصولاً لضرب الأراضي الإيرانية نفسها يمكن النظر إليه بطريقة مماثلة للتدرج الذي قامت به إسرائيل ضد "حزب الله". إلا أن "حزب الله" وإيران خسرا الردع أمام إسرائيل لسببين متناقضين.
"حزب الله" راهن على أن مجرد متابعته للضربات الصاروخية المحدودة ورفضه الضغوط للتوقف كفيل بإقناع إسرائيل بأنه لا يخشى الحرب المفتوحة، وأن استخدام قدراته الصاروخية ستتفهمه إسرائيل على أنه عينة مما يمكن أن يحصل في الحرب المفتوحة. تقديم عينات صغيرة مما يمكن استخدامه لم يردع إسرائيل بطبيعة الحال.
و"حزب الله" لم يأخذ بالحسبان أن إسرائيل راهنت على قدرتها على تحييد القسم الأكبر من قدراته الصاروخية قبيل الحرب وفي أيامها الأولى فقط. إيران قامت بنقيض ما قام به "حزب الله". فبدل تقديم عينات حول القدرات التي تمتلكها لجأت إلى ضربة كبيرة ومعقدة، ومكلفة بطبيعة الحال، في 13 أبريل/نيسان باسم "الوعد الصادق" وكان أهم ما استخدمته فيها أكثر من مئة صاروخ باليستي وحوالي مئتي صاروخ جوال وطائرة مسيرة. الضربة الثانية في 1 أكتوبر/تشرين الأول، باسم "الوعد الصادق 2" استخدم فيها مئتا صاروخ باليستي.
ولكن الردع لم يتحقق. المعضلة التي تجد إيران نفسها فيها اليوم هي أن أي ضربة جديدة – والتي بدأ الترويج إعلامياً لها بالفعل باسم "الوعد الصادق 3" – يجب أن تكون أكبر من سابقتيها، أو على الأقل بحجم الضربة الثانية. ولكن لا يمكن التعويل منطقياً على أن نوعية وكمية القدرات النارية التي فشلت بتحقيق الردع في 1 أكتوبر/تشرين الأول ستنجح بتحقيقه الآن، أو في المستقبل القريب.
وتدرك إيران كذلك أن إسرائيل تتحدث علناً عن التراجع في حجم الترسانة الصاروخية الإيرانية بعد هاتين الضربتين، وبعد إضعاف قدرات إنتاج الصواريخ البالستية في الضربة الأخيرة لأراضيها. إيران تدرك كذلك أن إسرائيل تراهن على استنزاف قدرات الردع الإيرانية – الصاروخية البالستية وقدرات "حزب الله" – تمهيداً لضربة محتملة لمنشآتها النووية.
التعامل مع هذا الواقع يتطلب من إيران قراراً استراتيجياً يأخذ بالاعتبار احتمال التدحرج نحو حرب مفتوحة واستهداف منشآتها النووية والنفطية، وهذا ما ستكون له تداعيات كبيرة على المنطقة والعالم. مثل هذا القرار الاستراتيجي يصعب اتخاذه من دون الأخذ بالاعتبار مواقف الحليفين روسيا والصين. فالأولى يمكن أن تخسر مصادر الدعم العسكري الإيراني، والثانية يمكن أن تصاب بالشلل فمخزونها الاستراتيجي من النفط، والمقدر بحوالي 290 مليون برميل، يكفي لتغطية أقل من شهر من الواردات، والتي يأتي نصفها عبر مضيق هرمز.
وسط غياب المساندة الروسية والصينية، وتراجع قدرات وكلاء إيران في المنطقة، تصبح خيارات إيران شديدة التعقيد وقد يكون الخيار الأسلم هو انتظار نتائج الانتخابات الأميركية والبناء عليها خلال اتخاذ القرارات التي قد تكون مصيرية بالنسبة للنظام الإسلامي في طهران.