حزب الله: هاجمنا بسرب من المسيرات الانقضاضية قاعدة 7200 للصيانة جنوب مدينة حيفا

logo
اتجاهات

الحياة خلف الشاشات

الحياة خلف الشاشات
04 يناير 2022، 2:11 ص

رمزي الغزوي

في السكن أيام الدراسة الجامعية طبخنا "منسفاً".. ومن فرحنا التقطنا له صورة بعثنا بها، على سبيل المناكفة، في اليوم التالي، إلى صديق لنا في موسكو بالبريد، وقد كتبنا على ظهرها: "روّق يا حبيب، ليت التكنولوجيا تقدر على حمل المذاق والمخبر، كما حملت اللحم والمظهر".

لم يتأخر رد صديقنا سوى ثلاثة أسابيع، فعادت الصورة مكتوبا تحت ما كتبناه: "لا بدّي أذوق، ولا أروق. ترى إنتو طابخين مقلوبة، مش منسف. فضحتونا".

تذكرتُ الواقعة الممنسفة، وقد مرّ عليها أزيد من 27 عاماً، حين قرأت قبل أيام عن تمكن البروفيسور الياباني في جامعة ميجي، هومي مياشيتا، من ابتكار نموذج لشاشة تتيح تذوّق الطعام، فضلاً عن مشاهدته وسماعه، بفضل سطح دائري يُلعَقُ باللسان، يتكوّن من 10 نكهات يمكنها محاكاة مذاقات كثيرة بدءاً من الشوكولاتة وصولًا إلى البيتزا.

أفرحني كثيراً هذا الإنجاز التقني، ولربما سيفرح أيضاً أولئك الأزواج، الذين دأبوا على التحجج بتواضع مهارات زوجاتهم في الطهي، كي يتهربوا إلى المطاعم بصحبة من يرغبون، فكل ما على الزوج أن يفتح خطاً هاتفياً مع ربة بيته، ويطلب أن تذيقه عينة من الطبخة.. عندها يغمض عينيه بافتعال، ويقول متعجلاً: صار عندي شغل. لا تنتظروني.

طالما كان الخيال البشري أسبق وأوسع من العلم وتطبيقاته التكنولوجية بمسافات بعيدة ومساحات أبعد، فقبل أمنيتنا بنقل مذاق طبختنا إلى صديقنا بأيام، تمنينا بدموع شوق ولهفة، لو أن أسلاك الهاتف تغدو قادرة على حمل رائحة الأمهات في الوطن، مثلما تتيح لنا أصواتهن العامرة بالدفء والحياة.

واليوم، على ما يبدو، باتت جل الأماني التي حلم بها البشر متاحة إلى حد كبير على أرض الشاشات: صورنا الفورية، أصواتنا، روائحنا، مذاقات طعامنا، ولمساتنا، حتى أن أبحاثاً علمية مجنونة تطرق الآن موضوع تحويل الإنسان إلى طاقة، ونقله بسرعة الضوء، لجمعه في المكان المطلوب. فماذا بقي أيضاً؟

بعيداً عن تلك الشطحة، لم أستغرب أن اختراع الشاشة الذواقة جاءنا من بلد الذكاء ورهافة الأحاسيس، فاليابانيون شعب ذواق بامتياز، ومنهم من هو قادر على تحديد عمر وشكل ومنطقة صيد سمكة التونة، إن تذوّق لفافة "سوشي" منها. ومن قبل، فلهم الفضل في إضافة مذاق "الأومامي" - وهي كلمة من لغتهم تعني الطعم اللطيف - إلى المذاقات الأساسية المعروفة، الحلو، والحامض، والمالح، والحار.

يبدو لي أن كل الاختراعات الحاملة للصور والمذاقات والروائح واللمسات تقول دون مواربة: عش في فقاعتك وحيداً أيها الإنسان، والعلم كفيل بنقل كل شيء إليك. ستحب عن بعد، وتتعلم وتتذوق وتتزوج كذلك عن بعد.. لا تتعب نفسك. ابق مكانك. الأشياء كلها تأتي إليك.

لكن، ومع فرحي بالتفوق البشري، إلا أنني لا أكاد أصدق أن مذاق المنسف العابر للشاشات سيغني يوما عن لمة أصدقاء يأتلفون حوله كتفاً بكتف، ولا أكاد أتفهم أن تلك التقنيات، مهما بلغت من الدقة والحساسية، ستجعلنا نحس بمعنى الحياة وفحواها.

الحياة أن تتذوق لمسات أصابع طفلك في مهده الأول.. أن تسمع رائحة حبيبك وتتشرب دقات قلبه إن كنتم في مظلة تحميكم من حبال المطر.. الحياة أن تطير كغيمة عطر إذ تهمس طفلتك في أذنك بكلمات مدغدغة رطبة.. هي أن تكون قادرا على عيش معنى الدمعة العالقة في حرف عين أبيك إذا ودعك في سفر..

الحياة شيء آخر، لن تستطيع الموجات الكهرومغناطيسية أو شاشات ذكية نقله، أو نقل إحساسنا به.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة ©️ 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC