logo
اتجاهات

الخوف كأنه كلب (2 من 2)

الخوف كأنه كلب (2 من 2)
01 يونيو 2022، 4:53 م

من أين أبدأ لكِ حكايتي المريرة مع الكلاب يا ابنتي؟

سأبدأها من الإسكندرية، حين كنت في العاشرة من عمري وابتليت بكلب لعين، قرّر جارنا عَكِر المزاج الذي يسكن في الدور الأسفل أن يجعله أداة لتسلية روحه الخربة، فكان يربطه من حين لآخر في باب شقته بسلسلة طويلة تجبره على التوقف على بعد سنتيمترات ممن يعبر إلى جواره..

والغريب أن الكلب اللعين لم يكن يتحرك من مربضه ويبدأ في النباح الشرس إلا حين أمرّ عليه وحيدًا، أما حين يصحبني أحد أفراد أسرتي فقد كان يكتفي بإرسال تلك النظرات الناعسة التي كانت تجبر الكل على حبه وملاطفته.

حين دفعني الخوف من أن "أعملها على روحي ذات يوم" إلى التخلي عن كبريائي، فصارحت خالي بتلك العداوة الغريبة التي يكنها الكلب لي دون غيري من سكان العمارة، قال ضاحكًا إن ما يحدث ليس استقصادًا لشخصي التافه، بل هو استئساد يستمتع به الكلب، تفسيره العلمي ببساطة أن الكلاب تشم رائحة الخوف المنبعثة من بني البشر، وأن عليّ أن أغالب مخاوفي وأكتمها داخلي بهدوء، وحينها فقط سيتعامل الكلب معي بلا مبالاة كما يفعل مع غيري.

لكنني كنت كلما جاهدت في دفن مخاوفي، تفوح رائحتها أقوى، فيستأسد الكلب اللعين عليّ أكثر، ولم يعد يشاركني فقط في اللحظات المرعبة التي أستعجلها كلما نزلت السلالم ذاهبًا لقضاء غرض للأسرة، بل أصبح يشاركني في كوابيسي الليلية التي أتحول فيها إلى قاتل كلاب محترف، أقتله كل مرة بشكل مختلف، ويشاركني في دعواتي اليومية التي أدعو فيها لنفسي وأهلي، وأدعو الله قبل ذلك أن يخلصني منه..

وقد استجيبت دعوتي بأسرع مما توقعت، حين اختفى الكلب فجأة، وقيل إنه أصيب بميكروب قاتل، ليكون آخر كلب تشهده عمارتنا، وبالطبع كنت سعيدًا بنفسي لأنني أصبحت من مستجابي الدعوة، مع أنها كانت الدعوة الوحيدة التي أجابها الله لي في النصف الأول من عمري.

في سنوات الصبا التي قضيتها في مدينة صنعاء، كنت أعاني من استئساد الكلاب الضالة عليّ وعلى رفاقي، كلما ذهبنا للعب كرة القدم في أرض فضاء قريبة من بيتنا، لكن تلك المعاناة اختفت فجأة حين تبخرت كل الكلاب التي كانت تسود شوارع الحي الهادئ الذي كنا نسكنه.

ولم يطل استغرابنا فقد قيل لنا إن المهندسين القادمين من كوريا الجنوبية والذين يقومون بعمل مشاريع الطرق في الجوار تكفلوا بكلاب الحي، وكفوا البلدية عناء مطاردتها وصيدها، لأنهم يفضلون لحمها لما فيه من أسرار باتعة لم نكن نفهم تضاحك الكبار حين تأتي سيرتها.

بعد أن كبرت وأصبحت شَحْطًا ينبغي أن تهابه الكلاب، قادتني الظروف للسكن في شارع من شوارع الجيزة تحكمه الكلاب ليلًا، بتشجيع من سكانه الذين رأوا فيها بديلًا أكثر فاعلية، وأرخص تكلفة من الاستنجاد بالشرطة أو الاستعانة بحراس الأمن.

ولأنني كنت أعود من عملي في الصحيفة بعد أنصاص الليالي، كان عليّ أن أذكّر نفسي دائمًا بما قاله لي خالي عن ضرورة كبح رائحة الخوف التي تشمها الكلاب، لكنه لم يكن يعرف أن كلاب الجيزة أجنّ وأشرس من أن تنطبق عليها قواعد العلم والمنطق.

شيء ما في مدخل الشارع الطويل الضيق المجاور لمعهد الرمد والمؤدي إلى شقتي التعيسة، كان يجذب كل كلاب الشوارع المحيطة بميدان الجيزة لتنظيم مباريات قتالية، يستعرض فيها كل كلب مهاراته في التعليم على أقرانه.

وكان من العبط أن يفترض عاقل أن ما تفعله الكلاب من عضّ في رقاب وأبدان بعضها، لن يحدث لفخذه أو مؤخرته، لو قرر أن يسير بينها وهو يدفن خوفه في أعماق مشاعره، حتى لو كان يقرأ عدّية ياسين أو صحيح البخاري، أو يردد اسم قطمير كلب أهل الكهف الذي أفتى البعض بأن تكرار اسمه يمنع الكلاب من العض، لكنه لم يعمل حساب الكلاب الملحدة التي يهيّجها اسم قطمير، ويجعلها أكثر شراسة.

كان من الصعب أن يستجيب الله دعوتي بقدوم المهندسين الكوريين المفاجئ إلى شوارع الجيزة، ولذلك كان عليّ حين أعود كل ليلة مرهقًا من وعثاء العمل، أن أقف على ناصية الشارع لأتأكد من كونه يشهد تجمعًا كلابيًا صاخبًا أم أن الكلاب هجرته إلى شارع آخر؟

أحيانًا أكون محظوظًا فأجد الشارع خاليًا، أو أصادف مجموعة من سكانه الذين تألفهم كلابه وتهابهم، فأفتعل مع أحدهم محادثة تطول خلال سيري معهم حتى أبلغ بيتي، أو أستعبط فألزق فيهم صامتًا غير مبالٍ باستغرابهم، أو أتشجع فأصارحهم بخوفي الذي يجب أن يعينوني عليه، حتى لو كان الثمن تريقة وبستفة أستحقها.

حين تعربد الكلاب في قتالها الليلي، ويطول وقوفي وحيدًا على مدخل الشارع، كنت أُضطر إلى قضاء الساعات المتبقية من الليل في الجنينة المجاورة لكوبري عباس، أقرأ تحت عواميد نورها حتى مطلع الفجر الذي تختفي معه عدوانية الكلاب التي يكبس عليها النوم بعد كل ما حرقته من سعرات حرارية في معاركها الليلية الشرسة.

وبالطبع، لم يكن يخطر لي على بال ذات ليلة غلبني فيها النوم بفعل طراوة نسمات الصيف، أنني سأصحو من نومي، لأجد كلبًا لاهثًا يحدق في وجهي واللعاب يسيل من شدقيه، ربما لأنه ظنني غنيمة دسمة كافأه بها الزمن، وحين قفزت من الرعب، وأنا أصرخ بعزم ما فيّ، كانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي أخيف فيها كلبًا في حياتي.

لكن مفعول ذلك الخوف لم يستمر إلا لتلك اللحظات التي ابتعد فيها قليلًا، ثم استجمع شجاعته وعاد لينبح في وجهي بشراسة مستمتعًا برؤيتي وأنا ألملم كتبي وجرائدي، وأسارع بالجري باحثًا عن ملاذ جديد لباقي ساعات الليل.

حين بلغتِ الثانية من عمرك، كانت المرة الوحيدة التي تيقنت فيها من فاعلية نصيحة خالي القديمة: اكتم مشاعر الخوف تتجاهلك الكلاب. كنت يومها أجلس معكِ في حديقة صغيرة في إدنبرة، ولم أكن أعرف أنها كانت حديقة مخصصة لكي تلعب الكلاب مع بعضها ومع أصحابها.

ولذلك كان لها باب حديدي كبير، وهو ما لم أفهمه حين دخلنا، وحين انفتح المزلاج واندفع إليها كلب أسود ضخم جاريًا نحونا وهو يظن أننا مستعدون لملاعبته، ظننت أنه سيهجم عليكِ، فأحطتك بذراعيّ وتحولت إلى تمثال حجري جمّدت غريزة البقاء كل مشاعره، وقطعت كل ما ينبعث عنها من روائح.

للحظات ظل الكلب يرمق تحجّري باستغراب، في حين كنتِ بدوركِ تتفحصين ملامحه وأنت ترين مثله عن قرب لأول مرة، وحين تذكرتِ أنكِ رأيت من يشبهه في كرتون ما، لوّحتِ له بذراعكِ فبدأ يتقافز حولنا وهو ينبح بصوت منعني الرعب من تبيّن ما إذا كان ودًا أم عداوة، ولم أعد وقتها مشغولًا بكبح رائحة الخوف، بل بكبح مراكز إطلاق البول في المخ..

ولحسن الحظ لم يطل عذابي، لأن صاحب الكلب لحق به وأبعده عنا وهو يعتذر، وينبهنا بودّ إسكتلندي لطيف، إلى أننا نجلس في حديقة مخصصة للكلاب، لذلك علينا أن نستعد لقدوم من هم أغبى وأغلظ من كلبه الذي لا ينبئ مظهره الشرس عن حسن أخلاقه وتربيته.

بعد أن خرجنا من الحديقة ونحن نعود إلى البيت، غرقت في كريزة ضحك حين تذكرت أن كلاب الجيزة كانت قد خطرت على بالي قبل دقائق من هجوم الكلب الإسكتلندي، حين كنت أستمع إلى شاعري المفضل صلاح جاهين وهو يقول في واحدة من رباعياته المسجلة بصوته الساحر:
"سهّير ليالي يا ما لفّيت وطُفت
وفي ليلة ماشي في الطريق قمت شُفت
الخوف كإنه كلب سدّ الطريق
وكنت عاوز أقتله بس خُفت
عجبي".

حين قادتنا الحياة إلى نيويورك قبل سنوات، كنتِ قد كبرتِ وتطورت علاقتك بالكلاب والقطط، وأصبحتِ قادرة على ملاعبتها ومداعبتها حين تذهبين إلى بيوت أصدقائك أو حين تلتقين بها في الشوارع والحدائق، ولم يكن ذلك غريبًا عليكِ وأنتِ التي لا تحملين ما أحمله من ذكريات تعيسة.

كنت أظن أنني لن أُضطر إلى مصارحتك بها كما أفعل الآن، لعلك تفهمين أن تخلصي من عناء كل تلك الذكريات المريرة، سيحتاج إلى وقت أرجو ألا يطول، فلا أُضطر لإجبارك على حبس الكلاب والقطط كلما زرت بيتكِ للعب مع أحفادي الذين لن يفهموا لماذا يتجمد جدهم بذلك الشكل المضحك كلما مر إلى جواره كلب؟

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة ©️ 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC