حزب الله ينعى قائداً عسكرياً و13 مقاتلاً قضوا في غارة إسرائيلية بضاحية بيروت

logo
اتجاهات

عبد الله بونج!

عبد الله بونج!
14 يوليو 2022، 2:30 ص

كنا ننظر إليه كأعجوبة تستحق الفخر والتقدير، فقد كنا نحن أبناء التعليم الحكومي الكَتْيان نحسد من يتحدث الإنجليزية بطلاقة، فضلاً عمن يترجم عنها وإليها، ونتعامل مع متحدثي الفرنسية والألمانية بوصفهم من علية القوم، فما بالك بمن يترجم عن الصينية بعراقة قدرها وضخامة عدد الناطقين بها؟

لم تكن الصين على قائمة أولوياتنا الثقافية والمعرفية لكي نعرف الفروق بين لغاتها الرئيسية والثانوية، لكن فكرة أن يجيد زميل لنا لغة يتكلمها أكثر من مليار شخص بدت لنا براقة ومثيرة للإعجاب، وهو إعجاب تطور إلى حسد لدى أحد أصدقائنا الذي سخر من تخصص زميلنا المترجم في اللغة الصينية، فأطلق عليه اسم "عبد الله بونج"، نسبة إلى دينج شياو بينج رئيس الصين في تلك الأيام التسعينية الخوالي، باللام أو بالراء حسب موقعك العاطفي منها.

لم يكن المركز الثقافي الصيني فتح أبوابه بعد في القاهرة، ولم تكن معاهد وأقسام تعليم اللغة الصينية انتشرت كما هي الآن، ولذلك أكبرنا شغف زميلنا بالمعرفة الذي دفعه وهو طالب في الجامعة إلى طرق أبواب السفارة الصينية ليطلب منحة لدراسة اللغة الصينية، بعد أن فشل في الالتحاق بقسم تدريسها في جامعة عين شمس الذي كان تم افتتاحه في الخمسينات، فصادف طلبه هوىً في نفوس مسئولي السفارة الذين ساعدوه على تحقيق حلمه.

كان زميلنا يعمل في صحيفة منافسة، وحين سمعت قصته سعيت للتعرف عليه، وطلبت من أصدقائي العاملين معه أن يعرفوني عليه لكي أمطره بأسئلتي عن ذلك البلد الضخم المُلغِز، لكنهم قالوا إنه لا يمضي وقتاً طويلاً معهم حين يزور الصحيفة، لأن جدوله مزدحم بأعمال الترجمة والإرشاد السياحي والعمل غير المنتظم في السفارة الصينية، وهو ما جعله يخذل زملاءه الراغبين مثلي في التعرف على الصين.

حين طلب منه مدير تحرير الصحيفة أن يكتب سلسلة موضوعات عن رحلته إلى الصين وذكرياته مع شعبها، تحجج بأنه لا يجيد كتابة أدب الرحلات مثلما يجيد الترجمة، وحين تكرر الطلب مع وعد بإعادة صياغة المادة الخام التي سيكتبها، كان يسوَّف ويماطل معتذراً بضيق الوقت أو بضرورة التحرك سريعاً للعودة إلى قريته في محافظة القليوبية التي كان حريصاً على البيات فيها يومياً بعد أن تنتهي مشاويره في القاهرة.

بعدها طلبوا منه أن يحضر لهم صوراً من رحلته ويحكي قصصها شفوياً ليتم تحويل ما حكاه إلى مادة صحفية، فقال إن الصور التي التقطها هناك ضاعت مع حقيبته في مطار القاهرة، ولم يكن هناك سبب يدعو للتشكك في روايته التي حدثت لمسافرين شتى، وكان يمكن أن يبقى في الأذهان رمزاً لكفاح الفلاح المصري الذي عبر البحار ليلتقي بفلاحي الصين وعمالها ويصل ما انقطع من أيام عدم الانحياز، لولا أن الحزب الشيوعي الصيني قرر أن يفضحه ويقطع عيشه.

كان الزميل متخصصاً في ترجمة المقالات التي ترد في كبرى الصحف الصينية عن مصر والعالم العربي، ولأن صحيفته كانت معروفة بطابعها القومي وميول رئيس تحريرها الناصرية، فقد كان ينتقي المقالات التي تتحدث عن القضية الفلسطينية وتهاجم السياسة الإسرائيلية الاستيطانية وتذكّر بالمصير المشترك بين العرب والصين في مواجهة الإمبريالية العالمية، وهي مقالات كان رئيس التحرير يختار لها من حين لآخر صوراً تجمع الزعيمين جمال عبد الناصر وشواين لاي، ليذكر القارئ بالأيام التي لم نكن اكتشفنا فيها بعد أن 99 في المئة من أوراق اللعبة في يد أمريكا.

كانت اللغة الخطابية الحماسية التي تحفل بها المقالات المترجمة متماشية مع الخيال السائد لدينا عن الحزب الشيوعي الصيني، ولذلك لم يستغربها أحد، خاصة أن رئيس التحرير كان أصدر تعليماته لقسم الترجمة باختيار أي مواد صحفية تهاجم إسرائيل أو تنتقدها في الصحافة العالمية، ولذلك ضمن زميلنا لنفسه فرصاً ثابتة للنشر، كان غيره يحسده عليها ويلوم نفسه وأهله لأنهم لم يعلموه لغة تساعده على زيادة كشف الإنتاج كل شهر.

حين صحا العالم على أخبار الزيارة المفاجئة التي قرر الرئيس الصيني جيانغ زيمين أن يقوم بها إلى إسرائيل لأول مرة في تاريخ العلاقات بين البلدين، اتضح أن زميلنا كان الوحيد الذي لم يسمع بأخبار الزيارة، ولذلك قام بتسليم مقال مترجم ملتهب يلعن فيه رئيس تحرير كبرى الصحف الصينية سنسفيل إسرائيل التي زرعتها القوى الإمبريالية كخنجر مسموم في قلب الوطن العربي.

لم يسأله محرر صفحة الشئون العربية والدولية عن التناقض بين المقال المترجم والزيارة المفاجئة، فقد كان مخنوقاً منه لأنه لم يكن يستجيب لطلباته بتحسين خطه وتنويع موضوعات المقالات التي يترجمها، ولذلك قرر أن يطارد فأراً ظل يلعب في عبّه طويلاً فيما يخص زميلنا المترجم، مقرراً أن يصيد ذلك الفأر في حضور شهود من زملائنا في الصحيفة دون أن يخبرهم بما ينوي فعله لكيلا يفقد ميزة المباغتة، ولكي يحتفظ لنفسه بخط رجعة إذا ثبت خطأ شكوكه.

كان يفترض بالجمع الذي تحرك من الصحيفة أن يذهب إلى كشري أبو طارق لتلبية دعوة غداء من المحرر الشكّاك، لكن الجميع فوجئوا بأنفسهم داخل مطعم بكين للمأكولات الصينية الذي كان قد افتتح فرعاً في وسط البلد، وكان مالكه قد أعلن في الصحف عن استقدام طباخين صينيين لتقديم مستوى للأكل الصيني يصعب منافسته حتى على فنادق القاهرة.

حين تهيّب بعض الزملاء من تجربة الأكل الصيني الغريب عليهم، أيّدهم الزميل المترجم وقال إنه يحب كل شيء في الصين إلا طعامها، وطلب مغادرة المطعم لأن الكشري الذي تعرفه أحسن من الصيني اللي ما تعرفوش، فحلف الزميل الشكّاك بالطلاق أن أحداً منهم لن يتحرك إلا بعد تجربة الأكل الصيني الذي لن يتعبوا في اختياره من قوائم الطعام، بل سيختارونه بناءً على محادثة تاريخية ستتم بين المترجم والطباخ الصيني المناوب التي ستضفي على العزومة بعداً ثقافياً، وسينتج عنها موضوع طريف سيحبه القراء حتى وإن كره الزملاء الأكل الصيني.

فجأة هبّ المترجم من مقعده محاولاً الجري خارج المطعم لينقض عليه المحرر الشكّاك ويمسك به من قفاه وهو يجره ناحية المطبخ وهو يصرخ مطالباً بسرعة إحضار الطباخ الصيني وسط ذهول الجميع الذي زاد حين انفجر المترجم في البكاء طالباً من محرر الشئون الدولية أن يستر عليه ويفلت رقبته ويسمح له بالانصراف دون فضائح، حالفاً بأنه لن يرى وجهه مرة ثانية، وأنه لن يغادر قريته بالقليوبية مهما حدث.

كانت سرعة انهيار "المترجم" مفاجئة لمحرر الشئون الدولية الذي توقع أنه سيكابر ويستعيد تراث نجيب الريحاني في التعامل مع الطباخ، وظن أن القليل الذي يعرفه المترجم من اللغة الصينية قد يكون كافياً للإفلات من الفخ الذي نصبه له، لكنه لم يتوقع أن يعترف صاحبنا بأنه لا يعرف حتى كيف يقول "صباح الخير" بالصيني، وأنه حتى لا يعرف عنوان السفارة الصينية بالقاهرة.

في اعترافاته المثيرة قال عبد الله بونج إنه ورث محبته للصين عن أبيه العامل الذي جمعته صداقة بخبير صيني قدم إلى مصنعه بالدلتا في أيام الاشتراكية، ودخل بيتهم في البلد والتقط صورة مع أبيه وأعمامه، وأنه كان يحلم بدراسة الصينية، لكن اليد القصيرة منعت تحقيق حلمه، وأنه كان يذهب إلى دار الكتب لكي يستعيد ترجمات قديمة كانت تنشرها صحف الستينيات أيام كانت الصين ومصر يداً واحدة في مواجهة الإمبريالية الأمريكية، قبل أن تتحول الصين نفسها إلى إمبريالية، وتختفي مشاكل مصر مع الإمبريالية التي أصبح أغلب المصريين يعتمدون تعريف عادل إمام لها بأنها "من الأمبرة".

لم أسمع عن عبد الله بونج بعد ذلك الفخ المثير، لكنني كلما قرأت أو سمعت عبارة "الرزق يحب الخِفيّة" أتذكره، وأتساءل هل ساعدته الأيام على المزيد من النصبايات، أو أنها تشطّرت عليه وحده، وتركت كعادتها النصابين الثقال سارحين في الملكوت؟

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة ©️ 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC