عاجل

هيئة البث: الجيش الإسرائيلي سيدرب قوات البحرية على القتال البري بسبب نقص المقاتلين

logo
اتجاهات

خطر ضعف الاجتهاد التشريعي

خطر ضعف الاجتهاد التشريعي
12 مارس 2023، 9:35 م

إن النهوض بالاجتهاد التشريعي، سواء أكان دينيًا أو اجتماعيًا أو مدنيًا أو اقتصاديًا أو صحيًا أو جنائيًا أو سياسيًا أو عسكريًا أو ترفيهيًا أو غير ذلك من جوانب الحياة، يعد ضرورة من ضرورات نمو الدول واستقرارها، ودلائل ذلك ظاهرة وكثيرة عقلًا وعُرفًا وشرعًا.

ولو لم يقرر الله ويؤكد أن أمر المؤمنين شورى بينهم، ويفرض طاعة أولي الأمر تبعًا لطاعة الله وطاعة رسوله، ويوجب الرد لأولي الأمر المفوض إليهم استنباط ما يحتاج إليه من أحكام عند دواعي ذلك، لكان اليقين العقلي مستقرًا بضرورة النهوض بالاجتهاد التشريعي لإقامة مصالح المجتمع وتنميته واستقراره كأصل مباح متعارف عليه تدرك العقول ضرورته، وتعلم أنه سبيل تحقيق مصالح المجتمع و نموها واستقرارها.

وإنما استقامت واستمرت الدول والولايات والحكومات في عموم العالم عبر التاريخ بالاهتمام بالاجتهاد التشريعي، فالسر في تفوق الحكام بعضهم على بعض في الكفاءة في سياسة أمور الناس والاهتمام بالاجتهاد التشريعي في بناء الحضارات.

الجمود، والتقليد، وترك الاجتهاد في التشريعات، من أكبر أسباب ضعف وسقوط الحكومات والسياسات.

وقد كان حكام المسلمين على قدر كبير من المعرفة والدراية بذلك، والتمكن من الاجتهاد لضبط تشريعات الدول وتطويرها، وسر بقاء نجاح هذا الأمر يكون بدوام التجديد والتطوير فيه، وتوقف ذلك إيذان بالضعف أو السقوط.

ولقد وُلد التراكم المعرفي الإنساني لدى المجتمعات ومعظم الساسة، اليوم، لديهم قناعة بضرورة إشراك جميع فئات وأطياف المجتمع لاستقرار تلك التشريعات، وهذا ما يسمى بالشورى في الإسلام، وهذا يبين عظمة حكمة نصوص الوحي.. وفي الأزمان الماضية كان الساسة يستعينون بعدد محدود من المستشارين والعلماء والوزراء والقضاة والمفتين في التوصل للرأي المناسب فيما يحتاج للاجتهاد إليه من التشريعات.

وتوسعت، اليوم، دوائر إشراك أفراد وفئات المجتمع في ذلك الأمر، بعد أن ترسخت لدى المجتمعات الحديثة مزايا توسيع مشاركة أفراد وفئات المجتمع وأهميتها، وتبين أن محدودية المشاركة في الشورى، وبحث الرأي في تلك التشريعات، سبب لضعف قيمتها ودورها في بناء المجتمعات، والضعف أو الفشل غالبًا ما يكون سببه القصور في استيفاء الاجتهاد لجميع مطالب وحوائج المجتمع من خلال إشراك نواب المجتمع في ذلك الاجتهاد، فيتولد عن ذلك ضعف بتحقيق حاجات المجتمعات، وبالتالي ضعف في تحمس عموم المجتمع للتمسك بتلك التشريعات.

وبالرغم من الاعتراف بأن الاجتهاد التشريعي مطلب ضروري، إلا أنه قد يغفل عن ضرورة تجديد الاجتهاد التشريعي حتى يكون فاعلًا لملاحقة حاجات ومطالب المجتمع المتغيرة والمتجددة، وهذا يستدعي ضرورة مواصلة تجديده وإشراك عموم فئات وأطياف المجتمع فيه.

ضرورة النهوض بالاجتهاد في تشريعاتها وتجديدها سبب صلاحها وصلاح أمور الرعية.

فهذه الصورة هي الأكمل والأمثل، خلافًا لإعماله منقوصًا أو تعطيله، وقد وقع تعطيله في بعض الحقب الزمنية، حين وجد من يقول إن الاجتهاد أقفل بابه، وتعذر تحصيله، فأوجبت النخب على أنفسها وعلى المجتمعات تقليد أفراد معينين من العلماء والانتساب إليهم وإلى مذاهبهم، ثم أصبحوا يقلدون كل من ينتمي إلى تلك المذاهب من الفقهاء رغم اتفاقهم على امتناع تقليد المقلد، فضيع بذلك تطور علم الأحكام، وضعفت الثقة بملكات التشريع والاستنباط..

لم يشعر حينها بعض الحكام وعموم المجتمعات بخطر ذلك، فصار أمر الحكومات في بعض الأزمان بأيدي بعض الجهال فضاعت التشريعات، واختلت قيمتها، واختل نظام المجتمعات، وانحل نظام الأمور، وتضعضع بذلك سلطان الحكومات، ونتج جراء ذلك فراغ وخلل كبيران، وبلغ ظن أكثر العوام أن ذلك الخلل سببه تحكيم الدّين، والحقيقة أن سببه ترك الاجتهاد، وتحكيم التقليد، والعقل والدين بريئان من ذلك الضعف والخلل.

ومما لا شك فيه أن الجمود، والتقليد، وترك الاجتهاد في التشريعات، من أكبر أسباب ضعف وسقوط الحكومات والسياسات، وتنصيب من يعتمد التقليد والجمود، وترك الاجتهاد، وحصر الشورى أو تركها أمر كفيل بتراجع كل ما ينظم مصالح المجتمعات ويطور الحياة فيها.

روى القاضي أبو علي محسن التنوخي في جامع التواريخ، عن أبي الحسين بن عباس قال: كان أول ما انحل من سياسة الملك فيما شاهدناه من أيام بني العباس؛ القضاء، فإن ابن الفرات - وزير مشهور- وضع منه وأدخل فيه قومًا بالذمامات (وفي طبعة) بالزمانات -أي المحبة - لا علم لهم ولا أبوة فيهم، فما مضت إلا سنوات حتى ابتدأت تتضع ويتقلدها كل من ليس لها بأهل، حتى بلغت في سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة، إلى أن تقلد وزارة المتقي أبو العباس الأصفهاني الكاتب؛ وكان في غاية سقوط المروءة والرقاعة....إلى أن قال: وتلا سقوط الوزارة اتضاع الخلافة وبلغ أمرها إلى ما نشاهد، فانحلت دولة بني العباس بانحلال القضاء....).

والأمثلة كثيرة من الماضي والحاضر، وإنما هذا أحد الأمثلة المذكورة في التاريخ يتبين به خطر التهاون بالاجتهاد في التشريعات والقضاء وخطر التفريط فيما يصحح الولايات، وأن ضرورة النهوض بالاجتهاد في تشريعاتها وتجديدها، سبب صلاحها وصلاح أمور الرعية، وصلاح التشريعات لا يمكن أن يتحقق إلا بعلوم صحيحة، واجتهاد مستقل واعٍ متجدد من مجتهدين مؤهلين، مع شورى شاملة فاعلة..

وبهذه الأمور ينتج المجتمع تشريعات تحفز إرادته، وتقوي عزيمته، يتقدم بها ويبدع في بناء حياته، وذهاب ذلك علة لذهاب معنى الحكومات، وضعف الاجتهاد التشريعي علة ضعف الدول والمجتمعات.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة ©️ 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC