غارة إسرائيلية باتجاه الشويفات في بيروت

logo
اتجاهات

إمكانيات أخرى للحياة

إمكانيات أخرى للحياة
15 أكتوبر 2022، 11:42 م

يُشبّه كريستيان سالمون، مؤسس البرلمان الدولي للكُتاب، المواقف المتباينة من حصول الروائية الفرنسية آني إرنو على جائزة نوبل للآداب كمن يرفع كأس البطولة ابتهاجا إلى السماء ثم يُلقي به إلى الأرض.

مزيج من الزهو والتدنيس، من الفرح والغضب، من الفخر والشعور بالعار...

إعلان الأكاديمية السويدية عن جائزة نوبل عادة ما يقترن بحالات فرح جماعي في الأوساط الأدبية والعلمية والإعلامية العالمية، ومعدودة هي مواقف النقد والغضب التي تتجه لهيئة الأكاديمية السويدية بسبب اختياراتها المشوبة في بعض الأحيان بمواقف سياسية مُضمرة..

لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لآني إرنو بتاتا؛ فبعد مرور حوالي أسبوعين من حصولها على الجائزة الأرقى عالميا مازالت الروائية المُتوَّجة تتلقى سهام النقد من بلدها كما من جهات أجنبية.

هل لأنها امراة أم لأنها مناضلة سياسية ومدافعة شرسة عن القضية الفلسطينية أم لأنها تكتب بسكين حاد عن الذات وعن الطبقات المهَمشة؟

الجدل الأدبي العنيف المُلتبس بالسياسة وبالإيديولوجيا، في أغلب الأحيان، لا يغيب عن الساحة الثقافية الفرنسية، بدءا من قضية دريفوس الشهيرة مرورا بموقف كتاب اليسار الفرنسيين من دكتاتورية الحزب الشيوعي السوفيتي التي ذهب ضحيتها ملايين من البشر ومن الحرب على الجزائر وانتهاء بالمواقف من بعض الكتاب المِثليين التي تستبطن، في كثير من الأحيان، وجهات نظر سياسية غير خافية..

ولكن هذا الجدل لم يطل أدباء فرنسيين رجالًا حازوا، خلال السنوات الماضية، على جائزة نوبل للآداب من أمثال باتريك موديانو (2014) وجان ماري لو كليزيو (2008) ولا طال الأديب الفرنسي من أصول صينية جاو شينغ جيان ( 2000)، بل بالعكس من هذا، إذ إن الأوساط الأدبية الفرنسية احتفت أيما احتفاء بهذه النجاحات الرجالية.

إن ربط حصول آني أرنو على جائزة نوبل فقط بالحراك النسوي في العالم، بدءا من ثورة بعض الأوساط التقدمية الأمريكية على القانون الرافض للحق في الإجهاض في العديد من الولايات الأمريكية، وبتوسع نشاط حركة "تو مي" أوروبيا، ثم أخيرا ثورة النساء الإيرانيات التي تتجاوز الثورة على إجبارية ارتداء الحجاب، يعكس نظرة تمييزية واضحة، تتجاهل الموهبة الحقيقية للكاتبة المتوجة، وإن وَجدت بعض الأقلام المُتحاملة عليها أن الكاتبة مارغريت دوراس أولى منها بالحصول على جائزة نوبل.

وإذا لم تكن المواقف الرافضة لتتويج آني ارنو بالجائزة العالمية تعود أساسًا إلى ذكورية الوسط الأدبي الفرنسي، كما في أغلب البلدان ولكونها امرأة، فكيف نفسر هذه الزوبعة، التي لم تهدأ بعد، التي تستهدف صاحبة رواية " السنوات " و"شغف بسيط" و"الحدث" و"امرأة"، وغيرها من الروايات التي دأبت على إصدارها منذ أكثر من نصف قرن؟

طبعا ثمة ردود الفعل الواضحة من مواقف الكاتبة اليسارية المنخرطة في حركة " فرنسا الأبية " والتي أسهمت بنشاط كبير في الحملة الانتخابية لجان لوك ميلانشون أثناء ترشحه للانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا، وبالذات من مواقفها من القضية الفلسطينية ورفضها تعامل بلدها مع دولة إسرائيل المغتصبة للحق الفلسطيني.

ومن مواقف إرنو من القضية الفلسطينية، التي ذكرت بها أوساط اليمين المتطرف الفرنسي ووسط اليمين فضلا عن الدوائر الإسرائيلية توقيعُها، العام 2021، على رسالة مفتوحة بعنوان " خطاب ضد الفصل العنصري " نددت فيها بالحرب الإسرائيلية على غزة ومما جاء في هذه الرسالة أن تقديم الأحداث " على أنها حرب بين طرفين متساويين هو أمر خاطئ ومضلل. إسرائيل هي القوة المستعمِرة وفلسطين مُستعمَرة.. هذا ليس صراعا: هذا فصل عنصري".

ولكن كل هذا ليس كافيا لتبرير الانتقادات التي استهدفت آني إرنو، فثمة ما هو لصيق بنسيج كتابات صاحبة " الكتابة كسكين" وبجوهر فعلها الإبداعي.

يرى كريستيان سالمون أن الجدل المُثار حول كتاباتها وحول جدارتها بالجائزة يتقصد أساسا الصورة التي يتمثلها المجتمع عن نفسه في مرآة الأدب.

ولأن هذه الصورة غير مقدسة فإن آني إرنو تنتهكها عندما تقوم بالحفر في "الجذور والقيود الجماعية "حسب تقرير هيئة مُحلفي الأكاديمية السويدية التي أسندت الجائزة، حيث تذهب إلى مناطق غير مُستكشفة من الواقع الاجتماعي للجماعات ومن الواقع النفسي للأفراد، هذا الواقع المُهمش والمُستبعد عن أي تمثيل، فتمنحه وجودا "مرئيا" و"مسموعا" وتجعلنا ننصت إلى تلعثمه وخجله وخزيه..

إنه عالم المُعدمين ولكنه أيضا عالم الخرف والزهايمر والإدمان والعلاقات غير المشروعة واللذة المُحرمة وعالم الذاكرة الفردية والجماعية وأوجاعها الخاصة التي لا يخفف من وطأتها مرور الزمن.

إن يوميات آني إرنو ورواياتها المُعتمدة أساسا على السيرة الذاتية، لا تمثل أدبا فرعيا ولا أدبا أدنى، بل أدب الطابق السفلي من المجتمع ومن الذات البشرية وهي الصورة التي ينكرها المجتمع عن نفسه حفاظا على نقاوة أخلاقية، ويتملص منها الأفراد ويريدون التخلص منها أو نسيانها تماما حفاظا على تماسك خارجي...

وبمثل هذا الحفر الإبداعي تلتقي آني إرنو مع كافكا الذي كتب يوما "أريد حفر ممر تحت الأرض... موقعي مرتفع للغاية هنالك".

امرأة كاتبة، ثم يسارية ومدافعة شرسة عن الحق الفلسطيني في مجتمع تنشط فيه الدوائر الصهيونية، وتعري المجتمع وتكشف ازدواجيته وزيفه وهشاشته لا يمكن إلا أن تمنح قراءها إمكانيات أخرى للحياة يُنكرها علينا من ركبوا مراكب الظلم والزيف والخداع..

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة ©️ 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC