لماذا تنفذ الجيوش هجماتها وغاراتها تحت جنح الظلام؟

في الوقت الذي أصبحت فيه الحروب الليلية الأكثر تفضيلاً للجيوش، يتبادر إلى أذهان المتابعين جيداً ليلة التاسع عشر من آذار / مارس 2003، إذ بدأت عملية قصف عنيفة للعاصمة العراقية بغداد، أطلق عليها منفذوها الأمريكيون والبريطانيون اسم "الصدمة والترويع"، حيث تلقت بغداد وحدها ألف غارة جوية في ليلة واحدة.

وبعد ثلاثة أسابيع، سقطت بغداد في يوم لن ينساه جيل كامل من العرب ممن عايشوا تفاصيل الغزو الأمريكي للعراق، والذي خلّف نحو ربع مليون قتيل معظمهم من المدنيين العراقيين، سقطوا ضحايا القنابل والصواريخ والغارات الليلية بشكل خاص.

ولا يمكن نسيان المشاهد الليلية لقصف بغداد، حيث كانت القنوات الإخبارية العالمية تنقل لحظة بلحظة، الانفجارات الناتجة عن الغارات الجوية وصواريخ الكروز وسقوط القنابل وهي تضيء سماء العاصمة العراقية، فيما تشتعل الأرض تحت أجساد العراقيين من كل حدب وصوب.

لم يكن الغزو الأمريكي للعراق هو باكورة استخدام الغارات الجوية الليلية في الحروب ولن يكون الأخير، لكن هذه الحرب شهدت اعتمادًا مكثفًا للغارات الليلية سبق الغزو البري، ورافقه طيلة أيام العمليات العسكرية.

 

البداية..

في أواخر الحرب العالمية الثانية بدأ الأمريكيون والبريطانيون بتدشين الغارات الجوية الليلية على أهم المدن الألمانية، وبشكل خاص هامبورغ، الميناء الألماني الذي كان يشكل رئة الاقتصاد الألماني والثقل الأكبر في الجهد العسكري لقوات هتلر، حيث تقصّد الحليفان الهجوم على المصانع والمنازل لإيقاع أكبر قدر ممكن من المدنيين، وبث الرعب والصدمة في نفوس الألمان وضرب معنوياتهم، ليكون ذلك بداية النهاية للعهد النازي في ألمانيا. 

لاحقًا أصبح هذا النوع من الحروب الليلية الأكثر تفضيلًا للجيوش، وخاصة مع تطور تقنيات الرؤية الليلية وتزويد الأسلحة والجنود بهذه التكنولوجيا.

في السنوات الأخيرة كانت القوات المسلحة الأمريكية والإسرائيلية أكثر الجيوش استخدامًا للغارات الليلية ضد أعدائها، وخاصة في تنفيذ الاغتيالات.

وكان آخرها عملية استهداف إسرائيل للرجل الثاني في ميليشيا حزب الله فؤاد شكر قبل أسبوع، ومن ثم اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، ما استدعى تهديدات بالانتقام من قبل إيران وأذرعها في المنطقة.

واليوم، تحبس المنطقة العربية أنفاسها بانتظار ما يمكن أن يتحول إلى حرب شاملة قد تمتد لتشمل عدة دول، وربما تتدحرج لتلقي بظلالها على المنطقة كلها والعالم.

وينتظر معظم المراقبين وحتى الناس العاديين أن ينطلق الرد الإيراني ليلًا أو فجرًا تمامًا كما حصل في المرة الماضية عندما أطلقت إيران ليل الثاني والثالث عشر من أبريل نيسان الماضي، مسيراتها وصواريخها باتجاه إسرائيل.

ويبرز هنا سؤال جوهري حول موجبات ودوافع القوات المهاجمة للهجمات الليلية أو بشكل أدق الغارات الليلية التي تبدو أنها أصبحت الأكثر استخدامًا وتفضيلًا للجيوش النظامية وحتى للمنظمات شبه العسكرية والميليشيات التي طورت بدورها وسائل الهجوم الليلية، وخاصة المسيرات التي باتت السلاح الأرخص والأكثر فعالية، في الحروب الحديثة.

تحت جنح الظلام..

ويشرح خبراء عسكريون أن سباق التسلح بين الدول، والتفوق المادي للجيوش النظامية على الحركات الفاعلة غير الحكومية، والتصاميم المصغرة لتقنيات الرؤية الليلية وإمكانية الحصول عليها والقدرة على تحمل تكاليفها في مسارح القتال الحالية، أدى إلى جعل أوقات الظلام هي الظروف المفضلة للعمليات لدى جميع الأطراف في صراعات الأيام الأخيرة.

ويقول هؤلاء إن "هذا يتطلب من جميع الدول إعادة تقييم عقيدة القتال الليلي، بل واللجوء بشكل مفْرط إلى القتال الليلي في ضوء التطورات التكنولوجية السريعة التي تعمل على تغيير سيناريوهات ساحة المعركة الحالية والمستقبلية لصالح دول وجِهات فاعلة".

الخبير العسكري والإستراتيجي اللبناني، العميد المتقاعد إلياس حنا، يعيد في تعليق مقتضب لـ"إرم نيوز"، الدوافع التي تغري الجيوش أو الميليشيات العسكرية للهجوم ليلًا إلى سببين؛ "أولهما قدرة المهاجم على القتال الليلي وامتلاكه للقدرات والتقنيات العسكرية، وثانيهما تفادي الخسائر البشرية قدر الإمكان".

 

امتيازات..

 أما الخبير العسكري السوري، العميد المتقاعد علي مقصود، فيقدم شرحًا واسعًا عن الأسباب والامتيازات التي تتحقق للمهاجم ليلًا.

ويقول إن "قوى الصراع تتقصد أن تكون عملياتها مخفية لكي تحقق عنصر المفاجأة وإضفاء حالة من الذعر والخوف لدى الطرف الذي يتم الهجوم عليه".

ويضيف، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن "الهجمات والحروب الليلية بحاجة إلى أجهزة رؤية متطورة، وعند توفرها يكون الليل عاملاً مساعداً، وبالتالي يتم اختياره لتكثيف أوراق القوة لدى المهاجم وزيادة ضعف الجهة المقابلة".

ولفت إلى أنه "في السابق عند نشوب الحروب بين الدول العربية وإسرائيل كانت العقيدة المتبعة عند الدول العربية أن يكون أي هجوم عند الفجر قبل شروق الشمس، إذ تأخذ القوات العربية في حسبانها مواجهة الشمس لوجوه قواتها ما يشكل صعوبات أمام عدوها".

ويشير مقصود إلى أنه "بفضل تطور الحروب، أصبح هناك تكنولوجيا متطورة من صواريخ مزودة برؤوس حربية ودبابات وحتى طائرات مسيرة، وهذه تعد عاملاً حاسمًا في أغلب العمليات، وتمهد الطريق أمام العمليات التي تتم ليلًا، وهذه الأسلحة المتطورة التي تُسْتَخْدَم نهارًا فتحت المجال أكثر لتوجيه ضربات أكثر دقة ليلًا، بالإضافة إلى عمليات جمع المعلومات الاستخباراتية والأمنية التي اختصرت العديد من المراحل وحتى المسافات، وخير مثال ما حصل عند اغتيال إسماعيل هنية"، وفق قوله.

ويوضح الخبير أن الليل هو من أهم نقاط قوة المهاجم، ويصعب على الطرف المدافع القيام برد على تلك الهجمات، ويساعد الليل على إخفاء الكثير من إجراءات وتحضيرات العملية والضربات. لكن وفقًا لمقصود، لا يمكن أن يغطي الليل على أهمية ضوء النهار الذي يحتاجه الطرف المهاجم في عملية الرصد، ليتم الرصد وجمع المعلومات نهارًا والهجوم ليلًا.

عامل مساعد و"إستراتيجي"

ويتابع: "العامل الأساسي الذي يدفع بصاحب القرار أن تكون عملياته وتنفيذ هجماته ليلًا هو لكونه يعلم أنه عامل مساعد وإستراتيجي يقف إلى جانبه، بالإضافة إلى امتلاكه لأجهزة رؤية ليلية ومعدات متطورة، وفي حال توافرت هذه العوامل للقوى المهاجمة، فإن الليل يعد عاملاً آخر مساعد، إذ تتوقف حركة قوات العدو، ولا يكون هناك أي نشاط أو جهوزية في الليل وحتى مصدر الإكسير يتوقف".

إيران ستهاجم فجرًا

وعن طريقة وحيثيات الرد المرتقب من إيران وحزب الله، يقول الخبير العسكري: "ثمة خيارات عدة للرد، لكن أعتقد أن الأهم هو تحقيق عنصر المفاجأة، لا سيما أن أمريكا وحلفاءها بدؤوا حشد قواتهم في المنطقة لمساندة إسرائيل، وتم تفعيل الدفاعات الجوية، والطائرات بدأت تنفيذ دورياتها في أجواء المنطقة".

ويختم الخبير العسكري السوري علي مقصود حديثه بالتأكيد أن "عنصر المفاجأة له أولوية كبرى في الرد مع الأخذ بعين الاعتبار وجود أولويات حتى في اختيار الأجهزة والأسلحة والتقنيات التي سيتم اختيارها في الرد".

أما عن موعد الرد من قبل إيران وأذرعها في المنطقة، فيعتقد مقصود بأنه "سيبدأ فجرًا".