"المهفات".. تشريح الديمقراطية بين المسرح والسياسة

المتابع لمسرحية "المهفات" التي افتتحت أمس فعاليات مهرجان أميرة المناجم بالمظيلة في تونس، يتلمّس القدرة العالية للعب على أوتار الديمقراطية المسرحية ونظيرتها السياسية، ففي حين أن الاتكاء على أسس المسرح الشعبي أتاح مزيدًا من الحرية للتعبير عن الأفكار وتجسيدها على الخشبة، فإن الديمقراطية كمضمون سياسي للعرض وضعت القيود على الأفواه والعقول.

تركز المسرحية على هذا التناقض، وذلك من خلال التدقيق وقوة الملاحظة والنَّباهة التي يعنيها عنوان العمل باللهجة التونسية المحببة، خاصةً أن العرض لم يكتفِ بالنص الذي كتبه "الهاشمي العاتي"، بل أضاف إليه الممثلون (لمين النهدي ورياض النهدي وعبد القادر دخيل ومحسن بولعراس) الكثير من الارتجالات التي تجاوزت الواقع التونسي نحو شؤون عربية، ومنها الوضع الإنساني في قطاع غزة وغيرها.

وعلى امتداد الساعة والنصف استطاعت "المهفات" أن تكسر الجدار الرابع مع الجمهور الذي تفاعل كثيراً مع المضامين ومع الأسلوب الكوميدي المميز التي طُرِحَت من خلاله، سواءً لجهة الحكاية التي لا تحدد بلدًا معينًا، أم لجهة الحوارات الذكية وحلول الحبكة، أم على مستوى الأزياء والأقنعة التي ارتداها الممثلون بحيث تصبح شخصياتهم قادرة على الانتماء إلى أي مجتمع عربي. 

قصة المسرحية

وتحكي المسرحية حكاية "سي لمهف" واسمه الكامل "محمد بن صالح لمهف" صاحب دكّان بقالة بسيط بخيل جدًا، يبحث عن مشروع يصبح من خلاله مليارديرًا، وعلى الرغم من ذكائه الشديد، بيد أنه دائم التذمر من وضعه، ولا يعجبه أي شيء، ولا يثق بأحد، ويقضي وقته مع صديقه "الباهي".

وفي أحد الأيام يجتمع الصديقان على الشاطئ لصيد السمك، ليفاجئهما أربعة رجال، هم زعماء سياسيون لأحزاب يسارية ووسط ويمينية ومستقلة، يخبرون "سي لمهف" بأنه عبر خطأ ما، بات هو رئيس الجمهورية الجديد المنتخب ديمقراطيًا.

بمعنى أن الفرصة التي طالما حلم بها لتحقيق الثراء جاءته على طبق من ذهب، رغم علمه أنه "غير مؤهل" لذلك، ومع ذلك فإنه بغريزته ودهائه يقود البلاد إلى طريق الصواب اقتصاديًا واجتماعيًا، ولو شاب أداؤه الكثير من الممارسات البروتوكولية الخاطئة التي تحاول "الآنسة جنينة" نائبة مدير الديوان الرئاسي أن تصلحها بلا جدوى. 

وفق هذا المنطق من الحكاية، يبدأ "لمهف" باكتشاف مؤامرات ودسائس، حتى إن زعماء التيارات السياسية الأربعة يحاولون التخلّص منه عن طريق تلطيخ سمعته، لكن شعبيته تزداد داخل البلاد وخارجها، خاصةً بعد اكتشافه ملفات ابتزاز وفساد لجل السياسيين والبرلمانيين، إلى جانب ملفات أخرى متعلقة بالآنسة جنينة وأصدقائه وابنه "الروندي" الذي بات طامعًا في الحكم من بعد أبيه، وهو ما دفعه للتخلي عن نشر تلك الملفات للعامة وإيثار الصمت.

وكنوع من تدارك أزمة ضمير التي باتت تضغط عليه، يعلن "لمهف" حل البرلمان بعد كشف تلك الملفات، ما عدا المتعلق بابنه وأصدقائه، وفوق ذلك يشهر قراره بالتمسك بالرئاسة مدى الحياة، وهو ما يجعل الجميع يصطف ضده بمن فيهم ابنه، وينجحون في وضع خطة تؤدي به إلى دار المسنين، حيث يمارس صلاحياته الرئاسية على العجزة، ليبقى السؤال الأهم الذي يدور في باله من هو الرئيس الذي خلفه، وكل خشيته أن يكون ابنه. 

 وحول هذه الحكاية المُغرقة بالمواقف الكوميدية يرسم العرض بذكاء وحيوية أطماع السلطة التي جعلت من مواطن بسيط رئيسًا للجمهورية، وأهم صفاته بأنه مُتغطرس، ولا يهمّه شيء سوى كرسيّه، وفي الوقت ذاته تسلط "المهفات" الضوء على الديمقراطية الزائفة ومفاعيلها العكسية، وألاعيبها التي تؤثر التحكم بالشعوب من أجل مصالح ضيقة للطبقة الحاكمة.