تحولت شبكة المجاري في مدينة نيويورك من مكان خانق، ومظلم، يضج برائحة كريهة، ويثير الاشمئزاز إلى واحة للحكمة والفلسفة والتأمل وسجل يحفل بقصص إنسانية لافتة.
حدث هذا على يد المستكشف والمغامر النرويجي "إيرلينج كايج" الذي اعتاد تسلق قمم الجبال العالية مثل "إفرست" واكتشاف نهايات القطبين الشمالي والجنوبي المتجمدة، فضلًا عن غابات أفريقيا، لكنه قرر هذه المرة أن تكون وجهته الجديدة بعيدة كل البعد عن الأجواء المشمسة النظيفة والآفاق المفتوحة.
المغامرة المدهشة يتضمنها كتاب "أسفل مانهاتن- الحياة السرية لمدينة نيويورك" الصادر في القاهرة عن دار "العربي"، ترجمة هايدي إبراهيم، ويروي فيه "كايج"، برفقة المصور والمؤرخ ستيف دانكن، تفاصيل رحلته في القاع السفلي لنيويورك بطول المدينة من "برونكس" إلى " مانهاتن" حتى محطتهم الأخيرة، "المحيط الأطلسي".
ويرتدي المغامران أحذية مطاطية مقاومة للماء وأجهزة لقياس الأكسجين والغازات الخطرة، لكن ماذا عن الروائح القاتلة؟ يرد "كايج " ببساطة أن الأمر، بالنسبة له، ليس أسوأ من رائحة " الحفاضات" المتسخة.
يتوصل المؤلف إلى حكمة أو فلسفة ما يسميه بـ "الجمال السلبي" ويقصد به اكتشاف نوع جديد من الجمال مأخوذ من قلب القبح يتمثل في غياب اللون والضوء والنظام الطبيعي داخل أنفاق الصرف الصحي على وقع خرير الماء الذي يقطع رهبة الصمت والظلام.
ويستعين بمقولات للعديد من الفلاسفة مثل مقولة "ليس المهم ما تنظر إليه، ولكن المهم ما تراه" للأمريكي هنري ديفيد ثورو، في إشارة إلى محاولته أن يرى شيئًا أبعد من مجرد القاذورات التي تلوح أحيانًا أمامه.
ويتضمن الكتاب تفاصيل قصص إنسانية لأناس قرروا أن يجعلوا من تلك المجاري بيوتهم الآمنة، رغم ما يحيط بهم من أخطار، قانعين بالروائح والظلام، زاهدين فيما فوق الأرض من صخب وصراع وكأنهم رهبان فوق هضبة التبت أدركوا سر السعادة بعيدًا عن مغريات الحياة الدنيا.
ومن أبرز النماذج التي التقاها المؤلف سيدة تعيش داخل أنفاق المجاري منذ 28 عامًا، وتبلغ من العمر 52 سنة، وتسمى نفسها على أحد أشهر أحياء نيويورك وهو حي بروكلين.
تحدد المرأة مكبًا معينًا للنفايات تصعد إليه مرة كل يومين أو ثلاث من فتحة غطاء معدنية سهلة التحريك لتحصل على مؤنتها من الطعام والمياه، ثم تهبط مرة أخرى إلى "وكر"، على حد تعبير المؤلف، شيدته بعناية في أحد الأركان داخل شبكة الصرف الصحي، لكن في مكان يتسم بالنظافة النسبية، ويتمتع بالقليل من الضوء.
لا تُعِد"بروكلين" نفسها وحيدة، بل صاحبة أسرة تتكون من عدة قطط لا تعرف مُعيلًا لها غير السيدة الخمسينية التي تعتمد عليها في الطعام والشراب.
وتؤكد السيدة المشردة صاحبة الملابس البالية أنها ليست بحاجة إلى شيء من العالم، وكل ما تتمناه أن يدعها البشر وشأنها، ولا يتطفلون عليها، مشيرة إلى أن أسعد لحظات حياتها أن تطعم القطط بيديها وتغني لها.