رئيس تايوان يحذر من "محاولات التسلل" الصينية ويتعهد بـ"اتخاذ إجراءات مضادة"
اعتاد أبناء هيثم النابلسي على ممارسة أعمالهم الموسمية في حصاد محصول القمح لتأمين لقمة العيش للعائلة، لكن رحلة العودة الروتينية إلى المنزل كانت استثناءاً هذه المرة.
خسر هيثم النابلسي ابنه الأكبر وأُصيب ولداه نتيجة انفجار لغم أرضي أصاب سيارة تُقِلُّ عاملين في الحصاد شرقي بلدة دير العدس بريف محافظة درعا (40 كيلومتراً جنوب دمشق و70 كيلومتراً شمال غرب درعا) خلال حزيران الماضي (2022).
يوثق هذا التحقيق تعرض مواطنين في سوريا لمخاطر الإصابة أو الموت نتيجة انفجار مخلفات الحرب من ألغام وذخائر وأسلحة متفجرة، بعد صراع دام أكثر من عقد تاركاً وراءه خطراً طويل الأمد يهدد حياة ملايين السكان، بعد أن استعملت أطراف متعددة في النزاع، ألغاماً وفخاخاً بأنواعها وأشكالها المختلفة، بهدف تحقيق مكاسب عسكرية على الأرض، ويعرض رحلة علاج الناجين منهم، ومعاناتهم ما بعد الإصابة، والجهود الدولية البطيئة في معالجة ملف مخلفات الحرب.
قُتل وأُصيب أكثر من 13 ألف مواطن ومواطنة جراء انفجار ذخائر متفجرة في مناطق متفرقة من البلاد منذ كانون الثاني/يناير 2015 لنهاية نيسان/أبريل 2022، في حين يعيش 10.2 مليون مواطن سوري في مناطق تحتوي ذخائر متفجرة، وهذا ما يعادل نصف عدد السكان تقريباً، بحسب بيانات صادرة عن الأمم المتحدة.
ضحايا من الجنوب إلى الشمال..
في حزيران/يونيو 2022، انفجر لغم أرضي بشاحنة كانت تقل عمالاً لحصاد القمح شرقي بلدة دير العدس بريف محافظة درعا. تُوفي 11 شخصاً وجُرح 26 آخرون، وفقاً لوكالة (سانا) الرسمية للأنباء.
وتنتشر المخلفات في مناطق عديدة من محافظة درعا؛ مثل: حوض اليرموك، ودرعا البلد، وطريق السد، وداعل، ودير العدس، وغيرها، وتكررت الحوادث في الريف الغربي بشكل أكبر من الريف الشرقي، وفقاً لمصادر أهلية خاصة تحدثت إلى "إرم نيوز".
فقد نصر هيثم النابلسي ( 20 عاماً) أخاه الأكبر في انفجار دير العدس، بينما أُصيب أخوه الأصغر. يروي الشاب تفاصيل ما حدث لـ (إرم نيوز): "بعد أن فرغنا من العمل، صعدنا إلى السيارة، وفي طريق العودة انفجر لغم فجأةً، فقدت الوعي على الفور".
يقول نصر: "توفي أخي الأكبر، وكُسرت قدما أخي الثاني، في حين بُترت قدمي اليسرى". ويستحضر نصر بغصّة ذكرى الحادث "صحوت قليلاً بعد الانفجار لأجد أبي أمامي، أردت أن يساعدني أحد، كانت قدماي مغطاة بالدماء، بدأت بالصراخ ...صرخت عدة مرات، بعدها غبت عن الوعي..".
يسرد هيثم النابلسي (والد نصر وفؤاد وسامر) وقائع اللحظات المريرة لذلك اليوم المأساوي: "كنا في البيت عندما سمعنا صوت انفجار لغم، بعدها بقليل نُودِيَ عبر مكبرات المسجد لخروج كل سيارات البلدة في سبيل إسعاف المصابين".
يكمل النابلسي "ركضت مع الناس ووجدت ولدايّ نصر وفؤاد في سيارة الإسعاف، رميت نفسي داخلها، كان فيها أكثر من 10 أشخاص؛ منهم من توفي وآخرون على قيد الحياة، ذهبنا إلى مستشفى الصنمين، ثم إلى مستشفى المجتهد بدمشق".
يتذكّر نصر "صحوتُ في غرفة العناية المشددة، وسألتهم أين أنا.. ماذا حدث معي؟ أخبرني الطبيب بالقصة. أعطاني الأطباء أبراً مميعة للدم في محاولة لإنقاذ قدمي اليسرى، لكنهم اضطروا إلى بترها لاحقاً".
ويضيف والده "وضع الأطباء في قسم العظمية سيخ (سفود أو قضيب معدني) في رجل ابني اليمنى أيضاً".
استأصل الأطباء طحال نصر أيضاً، واستمرت فترة العلاج المنزلية قرابة ثلاثة أشهر بعد خروجه من المستشفى إلى أن التأم جرح قدمه بعد البتر، ارتدى نصر ساقاً اصطناعية بعدها.
يقارن الشاب ما بين الماضي والحاضر "كنت أشتغل مع أخوتي، وأساعد أهلي في المصاريف اليومية قبل إصابتي، أما الآن؛ فعلى الرغم من تركيب الطرف الاصطناعي الذي ساعدني على الحركة في البيت وخارجه إلا أنني لا أستطيع مزاولة العمل مثلما قبل".
مضت 6 أشهر تقريباً على الإصابة، يصفها نصر "كانت مدة صعبة إلى أن تأقلمت رويداً رويداً مع وضعي الجديد، لم يقصر أبي وأمي في المساعدة خلالها أبداً".
يتمنى نصر العودة إلى العمل، أو أن يدير مشروعاً صغيراً غير مجهد جسدياً ليتدبر أمره ويساعد أهله في تحمل أعباء الحياة المادية، و"يتحدى الظروف".
وكانت دير العدس، إحدى جبهات القتال لأعوام منذ انطلاق الحرب في سوريا، حيث فرضت فصائل محلية سيطرتها على المنطقة قبل أن تستعيدها القوات الحكومية في عام 2015.
الأطفال والنساء أيضاً!
لا تميز مخلفات الحرب بين كبيرٍ وصغير، تحكي الطفلة سارة البشير (11 ربيعاَ) لموقع (إرم نيوز) كيف وقعت ضحية للمخلفات وخسرت قدمها اليمنى، "كنت أمشي على الطريق في بلدتي (الشيخ مسكين - درعا) عندما انفجر لغم، أسعفني أولاد عمي إلى مستشفى إزرع، ثم نقلت إلى مستشفى درعا لاستكمال علاج إصابتي في القدم ، حيث دخلت غرفة العمليات هناك، وبعد العملية أخبرني الطبيب أنهم بتروا قدمي اليمنى".
بعد أن خرجت سارة من غرفة العمليات، بقيت في المستشفى لمدة أسبوع، ثم عادت إلى البيت حيث استمر الأطباء بمداواتها إلى أن تحسنت صحتها.
أصبحت حياة سارة أفضل بعد تركيب الطرف الاصطناعي، وباتت قادرة على مساعدة أمها ببعض أعمال البيت والذهاب إلى المدرسة. تقول سارة "أرغب بإكمال تعليمي وأن أصبح طبيبة كي أعالج الأطفال الذين يشبهون حالتي الصحية".
وظلت مدينة الشيخ مسكين (22 كم عن مركز مدينة درعا، و80 كم عن دمشق) تحت سيطرة فصائل محلية حتى مطلع عام 2016 قبل أن تصبح تحت سيطرة القوات الحكومية.
ومن درعا جنوب البلاد إلى حلب شمالها، أصيبت عوفة (30 عاماً) بانفجار لغم من مخلفات الحرب في منطقة تل رفعت ( 35 كم شمال مدينة حلب).
تعود عوفة بذاكرتها 5 سنوات إلى الوراء، "ضغطت على اللغم وأصبت، أسعفني زوجي وأخي في سيارة إلى أقرب مستشفى، ثم أُدخلت إلى غرفة العمليات. ذهبت بعدها إلى مستشفى بحلب، وبقيت فيه إلى أن نجحت عملية البتر، رجعت إلى المستشفى، بعد فترة راحة، لتجميل مكان العملية".
أكملت عوفة علاجها في مركز التأهيل البدني بشارع فيصل وسط مدينة حلب الذي تديره وتموله اللجنة الدولية للصليب الأحمر، حيث حصلت على طرف اصطناعي لمساعدتها على الحركة وتجاوز الإصابة. وفقاً لإدارة المركز؛ بلغ عدد المستفيدين المسجلين فيه نحو 2300 شخص، العديد منهم مصابون بمخلفات الحرب، وذلك منذ افتتاحه عام 2015.
توضح عوفة أن تركيب الطرف الاصطناعي الأول كان صعباً، إلى أن اعتادت قدمها عليه بشكل تدريجي، إذ يتوجب عليها تبديله كل عام، وهو الطرف الخامس الذي ترتديه منذ الحادث.
تقول عوفة: "كنت سابقاً أتحرك وأعمل، أما الآن فأعتمد على أطفالي في مساعدتي بأعمال المنزل، إنْ لم أرتدي الساق الاصطناعية".
تصف عوفة حالتها اليوم: "أصبح الطرف جزءاً من حياتي لا يمكن الاستغناء عنه، ولا أستطيع الخروج من المنزل بدونه".
تعبر عوفة عن صعوبة تقبل كيف كانت حياتها قبل الإصابة وكيف أصبحت، "أحياناً أحزن وأشعر بالضيق كلما احتجت إلى تبديل الطرف، فأواسي نفسي بالصبر إلى أن أرتدي طرفاً جديداً، وأعود إلى حياتي كما كانت في مدة تتراوح ما بين 10 أيام إلى شهر".
رافق الأطفال أمهم في زيارتها هذه إلى المركز، تعقب عوفة "لا أخاف على أولادي ما داموا داخل القرية، لكنني لا أسمح لهم بالذهاب إلى المنطقة التي تعرضتُ فيها للإصابة بمفردهم".
ومن حلب إلى إدلب.. ما زالت المخاطر قائمة بالنسبة للسكان هناك بما في ذلك الأطفال ومنهم أنس، حتى وإن توقفت المعارك. يمارس أنس (14 عاماً) رعي الأغنام مع قريبه بعيداً عن منزله في الريف الشرقي لمحافظة إدلب، وفي أحد الأيام، دخل إلى منزل مجاور لمنطقة الرعي؛ حيث أمسك من دون دراية، بصاعق قنبلة يدوية من مخلفات الحرب، انفجر الصاعق بغتة، وبُتر إصبعان من يده اليسرى، تحسّنت صحة أنس لاحقاً، لكن الحادثة تركت آثاراً سلبية عليه.
يقول صلاح والد المصاب: "لم يعرف ولدي أن ما يحمله قابل للانفجار، سبّبت الإصابة إعاقة في يده أثرت على حياته بعدها". ويكمل بالقول: "توفي وتأذى أشخاص أعرفهم في منطقتنا نتيجة هذه المخلفات، كذلك انفجرت المخلفات بآليات زراعية منها حصادات أثناء موسم القمح".
وشهدت مناطق شرقي إدلب كما غيرها من مناطق المحافظة، معارك بين فصائل مسلحة وقوات الحكومة، قبل أن تستعيد الأخيرة السيطرة عليها في عام 2018.
مراحل العلاج
تشرح سوزي جزماتي الموظفة الميدانية في قسم إعادة التأهيل الفيزيائي باللجنة الدولية للصليب الأحمر بحلب لـ "إرم نيوز" مراحل علاج المستفيدين ممن بترت أطرافهم السفلية في المركز، حيث تبدأ رحلة العلاج عن طريق الإحالة من الهلال الأحمر السوري، إذ يخضع المستفيدون للتقييم الأولي وتقديم العلاج الفيزيائي لمرحلة ما قبل تركيب الطرف. يتم التقييم الشامل للمستفيد ووصف الجهاز أو المعين الحركي المناسب بعد ذلك من قبل فريق متعدد الاختصاصات مؤلف من المعالج الفيزيائي وفني الأطراف الاصطناعية لرسم خطة علاجية مناسبة، وإن استدعى الأمر يمكن التواصل مع الاخصائية النفسية في المركز نفسه أو حتى استشارة الطبيب الاختصاصي من الهلال الأحمر السوري.
"إذا كان المستفيد جاهزاً لتركيب الطرف يحصل الفنيون على القياسات، ويصنعون القالب الجبصيني، ثم يدخل القالب إلى ورشة لتصنيع وتجميع الأطراف الاصطناعية وبعدها يعود الطرف إلى قسم المعالجة، يعمل المعالج والفني على جلسة (Fitting) أي التجريب الأولي للطرف، وإذا كان مناسباً للمستفيد ينتقل إلى جلسات التدرب على المشي"، كما تبين جزماتي.
وتوضح أن التدرّب على المشي يتم على مراحل، منها: (initial activity) لتمارين الوقوف والتوازن ثم مرحلة (functional activity) وفيها مشي على سطوح مختلفة وسلالم ومنحدرات، بعدها يدخل الطرف إلى الورشة لصناعة الغطاء التجميلي ويسلم للمستفيد.
يصنع فنيون الطرف الاصطناعي في ورشة داخل المركز نفسه بشكل كامل بعد أخذ القياسات المناسبة للشخص إلى أن يصبح جاهزاً للاستعمال.
تضيف المسؤولية الميدانية "بدأنا بقدرة إنتاج لا تتعدى 10 أطراف اصطناعية شهرياً في عام 2015 حتى وصلنا إلى 50 طرفاً شهرياً، لكن الإنتاج تراجع بعد انتشار فيروس كورونا في سوريا".
يقول أنس حاج عوض (مساعد فني في مركز تصنيع الأطراف الاصطناعية والمقومات والكراسي والعكازات باللجنة الدولية للصليب الأحمر بحلب): "هنا.. نصنع أطرافاً لمنطقة تحت الركبة وأخرى فوقها، وكذلك أطرافاً علوية، حيث نستلم القالب الجبصيني، ونبدأ تصنيعه إلى أن يصبح جاهزاً للاستعمال، ثم نسلمه إلى قسم المعالجة الفيزيائية ليتدرب عليه المستفيد، وفي حال كان مناسباً يعود الطرف إلى الورشة لصناعة غطائه التجميلي".
اعتاد أحمد (52 عاماً) على سلوك طريق ترابية في ذهابه إلى العمل وإيابه (يعمل حارساً في مدينة الشيخ نجار الصناعية بريف حلب).
يحفظ أحمد يوم 30 أيلول 2021 جيداً، فكل شيء تغير بعد هذا التاريخ. يقول الرجل "ضغطت خطأً على صاعق من مخلفات الحرب أثناء المشي وأصبت. بُترت قدمي اليسرى على إثر ذلك".
يستعد أحمد لتركيب الطرف الاصطناعي للمرة الأولى بعد أخذ القياسات المناسبة لصناعته سابقاً. يكمل حديثه "تعالجت فيزيائياً لمدة شهرين قبل ذلك".
يتدرب أحمد لارتداء الطرف للمرة الأولى، حيث يتكئ الرجل الخمسيني بيده اليسرى على عوارض حديدية كي يتوازن، يتقدم عدة خطوات إلى الأمام ثم يعود أدراجه بالاتجاه المعاكس تحت مراقبة المعالج الفيزيائي المتخصص.
لم يخسر أحمد قدمه فقط نتيجة الحادث؛ بل عمله أيضاً الذي يجني منه قوت يومه. يقول متحسراً "أتمرن على المشي مرتدياً الطرف في المركز ثم أعود مجدداً إلى البيت، أنا عاطل عن العمل حالياً..".
وشهدت منطقة الشيخ نجار بريف حلب، معارك بين أطراف متعددة منها فصائل مسلحة والقوات الحكومية قبل أن تستعيد الأخيرة السيطرة عليها.
من خلال برنامج مساعدة ضحايا الذخائر المتفجرة، أطلقت دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام في سوريا، مشروعاً في عام 2021 بمنطقة ريف دمشق، إذ حصل 800 شخص تقريباً على مساعدات تتضمن جلسات إعادة التأهيل الفيزيائي والدعم النفسي والاجتماعي، وخدمات إعادة دمجهم في المجتمع؛ فضلاً عن تقديم المعينات الحركية لمن فقدوا أطرافهم جراء الذخائر المتفجرة، طبقاً لدائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام.
يقول مدير دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام في سوريا، جوزيف مكارتان، "تحدد المنظمات الأهلية غير الحكومية الأشخاص المستفيدين لنقدم بدورنا الدعم المادي لهذه المنظمات".
سوريا.. الأعلى عالمياً بعدد حوادث الذخائر المتفجرة
صرح مدير دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام في سوريا، جوزيف مكارتان، في لقاء مع "إرم نيوز" أن عدد حوادث الذخائر المتفجرة في سورية بلغ أكثر من 13 ألف (متضمناً إصابات ووفيات) منذ كانون الثاني/يناير 2015 لنهاية نيسان/أبريل 2022، بمعدل 5 حوادث يومياً.
ويقول مكارتان، إنه وفقاً لتقرير مرصد الألغام للعام 2022 "سجلت سوريا أكبر عدد لضحايا الذخائر المتفجرة سنوياً للعام الثاني على التوالي (2020،2021)، ما يمثل حوالي 60% من الضحايا المسجلين عالمياً، في حين أن نصف الأشخاص المعرضين لخطر الذخائر المتفجرة هم من الأطفال".
يؤكد مكارتان أن 10.2 مليون سوري يعيشون في مناطق ملوثة بالذخائر المتفجرة، و"هذا ما يعادل نصف عدد السكان تقريباً".
يشير مدير الدائرة في سوريا إلى احتمال وجود ذخائر متفجرة في أي منطقة شهدت أعمالاً قتالية، "إلا أن محافظات حلب وإدلب والرقة وريف دمشق والقنيطرة، ودرعا، إلى جانب دير الزور تعد مناطق عالية الخطورة"، على حد وصف مكارتان.
يستدرك مكارتان بالقول" تشهد هذه المناطق أعلى عدد من حوادث الذخائر المتفجرة، لكن ليس لدينا تصور كامل للوضع بعد".
تعلق المديرة الميدانية بقسم التلوث بالأسلحة لدى اللجنة الدولية للصليب الأحمر بدمشق، لين البيطار، في لقاء مع "إرم نيوز": "تعود الحوادث في أغلبيتها لفئة الذكور؛ سواء البالغين أو الأطفال، لعدة أسباب منها المهنة مثل رعاة الأغنام والمزارعين". توضح البيطار أن محافظات دير الزور وحماة وريفها وريف حمص سجلت تكراراً في حوادث المخلفات، ولا يعني ذلك أن المحافظات الأخرى خالية منها، لكن إما أنه لم يوصل إليها أو أنها بحاجة لإجراء مسح شامل على مستوى البلاد للحصول على تقييم حقيقي لمدى انتشار التلوث بالأسلحة.
وتشير المديرة الميدانية إلى مواسم غالبيتها زراعية يزداد فيها عدد الضحايا بشكل مرتفع في مدة قصيرة؛ مثل: موسم الكمأة في بوادي حماة وحمص ودير الزور، وأيضاً موسم الزيتون في أرياف إدلب وحماة.
وأودت الألغام الأرضية بحياة مواطنين سوريين خلال السنوات الماضية، وحتى اليوم، أثناء جمعهم الكمأة في البادية السورية التي تمتد على مساحات شاسعة من البلاد.
تؤكد الموظفة الميدانية في مركز الأطراف بحلب سوزي جزماتي أن غالبية المستفيدين الذين راجعوا المركز هم من مدينة حلب والمناطق الريفية في حلب وإدلب، لكن هناك حالات من محافظات أخرى مثل الرقة، وغالبيتها من مستوى البتر تحت الركبة، ويشكل الأطفال نسبة كبيرة منهم.
تقول جزماتي: "ساعد توفر خدمة المواصلات عن طريق الهلال الأحمر السوري على استقبال حالات أكثر من المناطق صعبة الوصول في أرياف حلب وإدلب".
التوعية قبل الإزالة!
تذكر البيطار أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر تدعم 13 فريقاً في 13 محافظة للتوعية بمخلفات الحرب؛ فضلاً عن 9 فرق للمسح غير التقني لدى الهلال الأحمر السوري تعمل في 6 محافظات على تحديد المناطق الخطيرة أو المشتبه بخطورتها، كي تشكل هذه البيانات والتقارير خطوة لإزالة المخلفات لاحقاً.
تحيل الفرق أيضاً الضحايا الذين يحتاجون إلى أطراف اصطناعية أو معالجات فيزيائية ونفسية إلى مركزي الأطراف الاصطناعية بريف دمشق وحلب لتلقي الخدمات، بحسب البيطار.
تفسر البيطار أن الإجراءات المتعلقة بالألغام ترتكز على 5 أعمدة، الأول وهو التوعية والثاني الإزالة والعمود الثالث هو إحالة الضحايا، أما الرابع فتدمير المخزون، في حين يتضمن العمود الخامس الدعوة ضد استعمال الألغام الفردية والمتفجرات.
وتنظم (المفوضية السامية لهيئة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين) وجمعيات ومنظمات دولية ومحلية غير حكومية حملات توعية للسكان عن مخاطر مخلفات الحرب وأنواعها والسلوكيات الآمنة عند ملاحظتها.
الإزالة.. مرحلة مكلفة وطويلة الأمد
وقّعت الحكومة السورية مذكرة تفاهم مع دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام (UNMAS) بمقر وزارة الخارجية والمغتربين في تموز/يوليو 2018 لدعم جهود إدارة تطهير الذخائر المتفجرة، بحسب (سانا).
وفي هذا السياق، بدأ برنامج دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام في سوريا مشروعاً بمنطقة داريا (ريف دمشق) في عام 2021 لتطهير الذخائر المتفجرة بالتعاون مع الشريك المنفذ على الأرض؛ المركز الأرمني لإزالة الألغام للأغراض الإنسانية والخبرات الفنية (ACHDE).
يقول مدير البرنامج جوزيف مكارتان " طهرنا الذخائر المتفجرة في مساحة مليوني متر مربع في داريا، حيث أصبحت الأرض صالحة للاستعمال الزراعي الآن".
يتابع مكارتان حديثه "أجرينا مسحاً لما يعادل 17 مليون متر مربع في اليرموك وداريا في دمشق وريفها، ووضعت علامات لتحديد مواقع حوالي 1262 ذخيرة متفجرة في داريا للتخلص منها تباعاً". يؤكد مكارتان أن مشروع المسح والتطهير في داريا هو مشروع محوري بهدف إعادة التجربة في مناطق أخرى لاحقاً.
وسيطرت فصائل مسلحة على داريا منذ عام 2012 وشهدت أعمالاً قتالية مع القوات الحكومية، حيث عادت إلى سيطرة الحكومة بعد خروج المسلحين منها بموجب اتفاق محلي في عام 2016.
كذلك؛ وقع مخيم اليرموك ومحيطه تحت سيطرة فصائل مسلحة، آخرها تنظيم داعش، قبل أن تسترده القوات الحكومية في منتصف 2018.
يوضح مكارتان أن العائق الرئيسي يتمثل بالتمويل، ويقول "نتمنى أن نحصل على ما يعادل 25 مليون دولار سنوياً لتنفيذ أعمال تطهير الذخائر المتفجرة والتخلص من المخاطر المحتملة المتعلقة بها".
يعمل المركز الأرمني (ACHDE) وكذلك منظمة مساعدات الشعب النرويجي Norwegian People's Aid في سوريا الآن، وفقاً لمدير البرنامج "ندرب كفاءات محلية للعمل في هذا المجال، وهناك منظمات دولية غير حكومية تسعى أيضاً للقدوم إلى سوريا، وأنا على ثقة أنهم سيجلبون معهم خبراء دوليين". من ناحية أخرى، يعتقد مكارتان أن تحديد سقف زمني لإكمال تنفيذ المهمة أمر صعب للغاية.
وأنهى المركز الأرمني لإزالة الألغام للأغراض الإنسانية والخبرات الفنية أعمال إزالة الألغام ومخلفات الحرب في قرية البرج التابعة لناحية خناصر بالريف الجنوبي الشرقي لحلب في تشرين الأول 2022، وكذلك في قرية حندرات والأراضي التابعة لها شمال حلب في آذار 2023. بحسب وكالة الأنباء الرسمية (سانا).
وبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر فإنه من الصعب تحديد المهلة الزمنية لإزالة المخلفات على المدى البعيد. حيث ذكرت في بيان سابق "سوف تمر أجيال قبل أن تطهر سوريا بالكامل من التلوث بالأسلحة".
طرق التطهير (الإزالة)
ينوه مكارتان إلى أن طريقة التطهير والأصول المستخدمة تُحدّد استناداً إلى معلومات المسح، فعلى سبيل المثال، أجرت دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام مسحاً تقنياً وآخر غير تقني في منطقة داريا-ريف دمشق، وأكدت أن المنطقة ملوثة بالذخائر المتفجرة التقليدية والمحلية الصنع (بما في ذلك الصواريخ وقذائف الهاون والقنابل اليدوية).
وفي هذا السياق، أكدت فرق المسح أيضاً عدم وجود مؤشرات على زرع ألغام مضادة للأفراد في المنطقة. وبالتالي، بناءً على هذه المعلومات، اختار فريق العمليات لدى الدائرة طريقة تطهير ساحة المعركة (BAC)، والتي تتكون من شقّين اثنين؛ الأول هو التطهير السطحي (البحث البصري)، والثاني هو التطهير تحت السطح باستخدام أجهزة الكشف عن المعادن المتخصصة للكشف عن الذخائر المتفجرة تحت الأرض، بحسب مكارتان.
ويذكر مدير دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام في سوريا، جوزيف مكارتان، أن التحديات الرئيسية تشمل تلوث التربة بالمواد غير المتفجرة، بما في ذلك الأدوات المنزلية، ما يعيق الاستعمال الفعال لأجهزة الكشف عن المعادن؛ فضلاً عن كون التربة شديدة الصلابة في بعض المناطق، ما يخلق صعوبات في التحقق من الإشارات، إلى جانب حركة السكان في المناطق الملوثة بالذخائر المتفجرة والتي لم تُطهر بعد.
بعد أكثر من عقد على اندلاع النزاع في سوريا، ما زالت مخاطر الذخائر المتفجرة تهدد حياة السكان على المدى البعيد؛ حتى مع تراجع حدة الأعمال القتالية في بعض المناطق، بينما تبدو مسألة تطهير البلاد بكاملها من المخلفات أكثر تعقيداً.
نصر وسارة وعوفة وأحمد وأنس… كانوا من بين آلاف الضحايا الذين أصيبوا بسبب إرثٍ قاتل خلفه الصراع على الأرض، وكل يوم يمضي يحمل معه مخاطر إصابات ووفيات جديدة من أبناء هذه البلاد الذين اختبروا خلال هذا العقد من الزمن أسوأ أنواع الموت والآلام؛ ولا يزالون..