أكسيوس: ترامب سيزور السعودية منتصف مايو في أول زيارة خارجية
بعد نحو 80 يوماً على سقوط نظام الأسد في سوريا، لا يزال الغموض يحيط بالملف الاقتصادي الذي يمثل التحدي الأكبر للنظام السوري الجديد، بل التحدي الأكبر لكل مهتم بالشأن السوري.
بنظر كثير من المراقبين، كان السقوط السريع للنظام السابق بالدرجة الأولى نتيجة الإنهاك والاستنزاف الاقتصادي والمالي.
لهذا فالعامل الاقتصادي حيوي لاستقرار الوضع الراهن والانطلاق نحو مستقبل أفضل لسوريا، إلا أن دمشق لم تجد، حتى الآن، أي تعهدات واضحة من المانحين الإقليميين أو الدوليين. كما لا يزال ملف العقوبات الدولية يراوح مكانه دون تغيير كبير.
وحتى الإعلان الأوروبي، في 24 فبراير/شباط، عن تعليق بعض العقوبات على سوريا، لم يشمل مصرف سوريا المركزي ولا المصرف التجاري السوري، أكبر المصارف الحكومية والوسيط في العمليات التجارية الداخلية والدولية.
واقتصر رفع العقوبات على أربعة مصارف هي: المصرف الصناعي ومصرف التسليف الشعبي والمصرف الزراعي التعاوني ومصرف التوفير، وهي مصارف حكومية صغيرة نسبياً، ومسؤولة عن قطاعات صغيرة من الاقتصاد السوري ولا تتعامل بالنقد الأجنبي، ولا تمتلك علاقات مع المصارف الأجنبية.
وبالمقابل، يتواتر صدور الدراسات السوداوية من المؤسسات الدولية حول متطلبات الاقتصاد السوري وتكلفة إعادة الإعمار والحاجة إلى عقود للتعافي.
في 20 فبراير/شباط، أصدر برنامج الأمم المتحدة للتنمية "UNDP" دراسة تحذر من أن سوريا إذا ما بقيت على المسار الحالي فستحتاج إلى 55 عاماً لكي يعود ناتجها المحلي إلى ما كان عليه في 2010.
هذه التقديرات السوداوية، وغياب الدور الغربي في مساعدة سوريا، أعادت تسليط الأضواء على دور تركيا التي تقدم نفسها اليوم باعتبارها اللاعب الأكثر تأثيراً في الملف السوري.
ومع ذلك فإن الرهانات السورية على الدعم التركي لم تثمر حتى الآن. بل يمكن القول إن الكثير من السوريين تعرضوا لمفاجأة غير سارة.
في 23 فبراير/شباط، كشفت الحكومة السورية أنها هي من تحمل فاتورة شراء سجاد جديد للمسجد الأموي في دمشق من إحدى الشركات التركية، وذلك لتحضير المسجد لاستقبال الرئيس التركي خلال زيارته المنتظرة في شهر رمضان المبارك.
استغراب السوريين منطقي، فالرئيس التركي أكد منذ أكثر من عقد من الزمن أنه سيصلي في المسجد الأموي بعد سقوط النظام. والسجاد الجديد الذي يُجْلَب للمسجد يتم توريده من شركة تركية.
والحكومة التركية طالما تفاخرت في الماضي بالدعم الذي تقدمه لدول العالم الإسلامي. فلماذا لم يرَ السوريون حتى الآن أي دعم حقيقي من تركيا، حتى في ملف يحمل رمزية لتركيا وليس لسوريا، مثل تجديد سجاد المسجد الأموي؟
تركيا حاضرة بقوة في الشؤون السياسية السورية، وفي الملفات الخارجية المتعلقة بسوريا، إلا أنها غائبة بشكل لافت عن ملف المساعدات الاقتصادية لسوريا.
ولم يصدر حتى الآن أي إعلان واضح من الجانب التركي – سواء عن الحكومة أو عن المؤسسات الخاصة أو الخيرية – حول تقديم المساعدات لسوريا، وذلك بالرغم من أن العديد من مسؤولي الحكومة السورية الجديدة تحدثوا، تلميحاً أو تصريحاً، عن الدور التركي الداعم.
أوضح أمثلة رهان الحكومة السورية على الدعم التركي كان في مجال الكهرباء الذي تعانيه سوريا، إذ لا تزيد ساعات التغذية الكهربائية في العاصمة دمشق عن أربع ساعات يومياً فقط.
في أواخر ديسمبر/كانون الأول، كشف وزير الكهرباء السوري الجديد، عمر شقروق، أن بواخر لتوليد الكهرباء ستصل قريباً من تركيا وستساهم بزيادة فترة التغذية الكهربائية في سوريا. ولكن في 30 يناير/كانون الثاني، صرح المدير العام للمؤسسة العامة لنقل وتوزيع الكهرباء، خالد أبو دي، أنه لا يوجد موعد محدد لوصول بواخر توليد الكهرباء.
وحتى كتابة هذه الأسطر لا يزال من غير الواضح متى ستصل هذه البواخر، أو ما إذا كانت ستصل أصلاً.
تمتلك تركيا فائضاً كبيراً في مجال توليد الطاقة الكهربائية. وهي تصدر الكهرباء منذ العام 2017 لمناطق الشمال السوري، التي كانت تحت سيطرة المعارضة السورية التي نجحت بإسقاط النظام السوري السابق، إلا أن تركيا لا تقدم الكهرباء لهذه المناطق على شكل مساعدات، بل على شكل بيع خدمات تحقق هامش ربح كبيرا للمصدرين الأتراك.
الشركات التركية التي تبيع الكهرباء داخل تركيا مقابل ما بين 2 و2.5 ليرة تركية لكل كيلو وات، تبيعه في مناطق الشمال السوري مقابل 3.8 ليرة تركية، بهامش ربح يقارب 40%.
مثال الكهرباء يظهر أن تركيا تفضل حالياً الاكتفاء بالتعامل مع سوريا بوصفها مستورد خدمات يدفع ثمن مستورداته، مع تجنب الالتزام بمساعدة سوريا قدر الإمكان.
ومن المرجح أن هذا الموقف التركي ينبع من عوامل عدة بينها:
أولاً: غموض الموقف الدولي إزاء حكام سوريا الجدد. فموقف الإدارة الأمريكية الجديدة لا يزال غير مرحب بهم.
والتصريحات القليلة المتوافرة من إدارة ترامب حول الحكومة السورية الجديدة جاءت من بعض المسؤولين الثانويين في إدارة ترامب، مثل تولسي غابارد وسيباستيان غوركا، إلا أنها تصريحات سلبية للغاية تجاه حكام سوريا الجدد.
ومن المرجح أن الموقف الأمريكي الإجمالي سيزداد سلبيةً بعد تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في 23 فبراير/شباط، الرافضة لوجود قوات النظام السوري الجديد في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء.
والمواقف الأوروبية لا تزال رمادية أو اختبارية. وهذا ما يظهر في الإصرار الأوروبي على إبقاء القسم الأكبر والأكثر أهمية من العقوبات السابقة على سوريا والتأكيد على إمكانية إعادة فرض ما تم تعليقه من العقوبات.
الترحيب الأوروبي بحكام سوريا الجدد كان بسبب الاعتقاد بأن روسيا ستخرج من سوريا مهزومة، ولكن الوجود العسكري الروسي لا يزال مستمراً في سورية.
وأخيراً، تلاحظ تركيا أن الدول العربية لا تزال في طور التعرف على حكام سوريا الجدد. ولغة الترحيب واللقاءات مع مسؤولي الحكومة السورية الجديدة لم تترافق مع أي تعهدات بتقديم المساعدات التي تحتاجها سوريا بشكل حيوي، بل رافقها وقف العديد من الدول العربية لإصدار تأشيرات الدخول لحملة الجوازات السورية بما يعكس وجود مخاوف أمنية حقيقية.
هذا الغموض الدولي والإقليمي يثني تركيا، بمؤسساتها الحكومية والخاصة، عن البدء بتقديم مساعدات مكلفة ولا يمكن استعادتها، خصوصاً أن تركيا تراهن على أن تستفيد هي بدورها من كعكة المساعدات الإقليمية والدولية لسوريا.
ثانياً: تعثر الأوضاع الاقتصادية والمالية في تركيا التي لم تخرج بعد من مشاكلها الاقتصادية المزمنة.
الدين العام التركي ارتفع بنسبة 10% خلال العام الأخير (من 480 إلى 526 مليار دولار). كما لا يزال العجز التجاري كبيراً ويتجاوز 82 مليار دولار سنوياً، مع نسبة بطالة تقارب 9% وتضخم مالي سنوي يزيد عن 40%.
المشاكل الاقتصادية التركية تتطلب جذب ما أمكن من الاستثمارات الخارجية لتجنب الاستمرار بالاقتراض وبما يساهم بتحفيز التوظيف وزيادة الطاقة الإنتاجية المحلية لتخفيض المستوردات. وهذه المشاكل تقلص قدرة تركيا عن تقديم المساعدات لسوريا.
ثالثاً: حساسية الرأي العام التركي إزاء أعباء الانخراط التركي في الملف السوري.
خلال السنوات الأخيرة استخدمت المعارضة التركية ملف أعباء استضافة اللاجئين السوريين في تركيا كورقة رئيسة في مهاجمة الحكومة التركية وإضعاف مواقعها في الانتخابات البلدية والبرلمانية.
وفي انتخابات مايو/أيار 2023، كان هناك احتمال جدي لخسارة الحكومة التركية للانتخابات لصالح المعارضة.
الحكومة السورية الجديدة تحتاج إلى مساعدات مليارية حتى للقيام بأبسط المهام المتوقعة منها. ولهذا فإن أي حديث عن تقديم المساعدات لسوريا سيثير المزيد من الانتقادات للحكومة التركية.
ولكوننا ناقشنا ملف الكهرباء يمكننا أن نشير إلى أن الحكومة التركية أوقفت، اعتباراً من فبراير/شباط الجاري، دعم فواتير الكهرباء للعائلات التركية التي يزيد استهلاكها الشهري عن 417 كيلووات في الساعة، علماً أن هذا الدعم كان يصل إلى 60% من قيمة الفاتورة.
في ضوء ما سبق، من غير المستغرب أن نجد أن المقاربة التركية لملف الانخراط الاقتصادي في الشأن السوري تجمع ما بين الحذر إزاء التطورات الدولية، والبحث عن المكاسب، وكذلك مراعاة الحساسيات الداخلية التركية.
ويمكن القول إن تركيا حريصة حالياً على قطف ثمار ما تعتبره انتصار رهانها على إسقاط نظام الأسد، وأن الثمار المقصودة تشمل مكاسب اقتصادية وسياسية وعسكرية واستراتيجية.
في المجال الاقتصادي تحديداً، تنتظر تركيا أن تكون الرابح الأكبر من مشاريع إعادة الإعمار عندما تنطلق في سوريا بتمويل دولي. وتسعى لأن تكون الرابح الأكبر من التوسع في تصدير مختلف أنواع البضائع والخدمات إلى سوريا، وعبرها إلى دول المنطقة.
ولهذا بدأ المسؤولون الأتراك الحديث بعد سقوط النظام السابق عن ضرورة تفعيل اتفاقية التجارة الحرة التركية-السورية التي وقعت في 2004 والتي علقها النظام السابق في ديسمبر/كانون الأول 2011.
ومع ذلك فإن الجزء الأكثر تعقيداً قد يكون في باقي الطموحات التركية، في الملفات السياسية والدفاعية والاستراتيجية.
تركيا لا تخفي رغبتها في إعادة ترسيم الحدود البحرية السورية-التركية، على نحو ما فعلت مع ليبيا. كما تتواتر التسريبات عن رغبة تركيا لتوقيع اتفاقات تعاون دفاعي مع الحكومة السورية الجديدة بما في ذلك إنشاء قواعد عسكرية تركية في العمق السوري.
هذه العوامل يمكن أن تثير حفيظة العديد من القوى الإقليمية والدولية. فاليونان وقبرص، على سبيل المثال، طلبتا من الاتحاد الأوروبي أن يحتفظ بإمكانية إعادة تشديد العقوبات على سوريا إن وقعت الأخيرة اتفاقاً مع تركيا لترسيم الحدود البحرية.
فهل ستستطيع الحكومة السورية الجديدة تبرير منح تركيا المكاسب المختلفة التي تطمح إليها، وتتحمل في سبيل ذلك الضغوط الدولية المختلفة، بينما لا تزال تركيا ترفض تقديم المساعدات الاقتصادية لسوريا؟
هذا السؤال سيصبح أكثر إلحاحاً في الفترة المقبلة في ظل تواتر المؤشرات على تأزم الأوضاع الاقتصادية السورية. وقد تجد الحكومة السورية نفسها، بأسرع مما تتوقع أو تتمنى، أمام لحظة الحقيقة الخاصة بمسار علاقتها بتركيا.