رئيسة المفوضية الأوروبية: الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب قلبت الأسواق العالمية رأسا على عقب
في العام 2020، وهو العام الأخير من ولاية ترامب الأولى، وصلت الولايات المتحدة وإيران لمرحلة تبادل الضربات العسكرية المباشرة عبر اغتيال الولايات المتحدة للجنرال قاسم سليماني وضرب إيران لقاعدة "عين الأسد" التي تنتشر فيها قوات أمريكية في العراق. إلا أن وباء فيروس كورونا وانشغال ترامب بالاستحقاق الانتخابي الرئاسي حالا دون وصول البلدين لمرحلة المواجهة المفتوحة.
سنوات بايدن الأربع شهدت تراجعًا نسبيًا للتوتر، وظهور تعاون براغماتي متفرق، وغض نظر الولايات المتحدة عن زيادة إيران لصادراتها النفطية لتخفيض أزمة الطاقة العالمية بعد تفجر الحرب الروسية-الأوكرانية. إلا أن العقد الرئيسة في الملف الإيراني ظلت دون تغيير. فلم يحصل أي تقدم في الملف النووي الإيراني، ولم تراجع إيران ما تصفه الولايات المتحدة بالسياسة التقويضية الخبيثة في الشرق الأوسط.
الآن يعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ليرث الملف الإيراني، وقد بات أكثر تعقيدًا مما تركه في 2020. وخلال الانتخابات تعهد ترامب بعدم شن المزيد من الحروب، واستخدام قدراته الفريدة على عقد الصفقات لإنهاء الأزمات الحالية.
انتقد ترامب سياسات بايدن التي يعتبر أنها فاقمت من الخطر الإيراني، إلا أنه لم يكشف عن استراتيجية واضحة للتعامل مع التهديد الإيراني، هذا التهديد بات أكبر منذ ذي قبل، وبات يتداخل مع ملفات أمنية واستراتيجية تخص الولايات المتحدة وحلفاءها، وكذلك قضايا اقتصادية داخلية في الولايات المتحدة نفسها. هذا التداخل – وليس الوعود الانتخابية – هو ما سيشكل المحددات الفعلية لسياسة ترامب تجاه إيران.
في ولايته الأولى، خالف ترامب التوصيات العلنية لأغلب حلفاء الولايات المتحدة بعدم الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وانسحب من الاتفاق، وراهن على استراتيجية الضغط الأقصى الاقتصادي والدبلوماسي على إيران؛ لدفعها للقبول باتفاق نووي جديد بالكامل، وتقليص لأنشطتها الإقليمية.
ولوح ترامب بعصاه لتهديد إيران. بينما كثف الأوروبيون – خصوصاً الفرنسيين – جهودهم الدبلوماسية لتوفير جزرة تشجع إيران على الجلوس للتفاوض. إذ لا نعلم يقيناً ما إذا كان ترامب والأوروبيون نسقوا أدوارهم ومواقفهم لتحقيق الأهداف المطلوبة.
ولكن هذا لا يبدو مرجحًا في ضوء تعقيدات علاقات الأوروبيين مع ترامب. وما هو أكثر أهمية على أي حال هو أن الأوروبيين اليوم قد غيروا من موقفهم تجاه إيران. وفي المراحل الأخيرة من ولاية جو بايدن، بات الثلاثي الأوروبي: – بريطانيا وألمانيا وفرنسا – هو من يضغط على الولايات المتحدة، والوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ لإعادة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن وإعادة تفعيل العقوبات الأممية السابقة للاتفاق النووي.
التغيير في الموقف الأوروبي كان نتيجة لتداخل عوامل عدة يتقدمها الدعم الإيراني لروسيا في الحرب ضد أوكرانيا، وكذلك نتيجة ما يعتبره الأوروبيون أنشطة إيرانية على الأراضي الأوروبية مهددة للأمن القومي الأوروبي. أما في الشرق الأوسط، فضلت الدول العربية الخيارات الدبلوماسية تجاه إيران. فيما تباينت المواقف الإسرائيلية، وكان نتنياهو من أنصار الانسحاب من الاتفاق النووي، بينما اعتبرت المؤسسة العسكرية والأمنية وجزء مهم من الطيف السياسي الإسرائيلي أن الاتفاق السابق يبقى أفضل من المضي نحو المجهول، وذلك في ظل عدم وضوح الخيارات العسكرية المتاحة ضد إيران في حال فشلت استراتيجية ترامب.
أما اليوم فهناك توافق إسرائيلي، بين الحكومة والمعارضة وبين المستويين السياسي والعسكري، على ضرورة مواجهة إيران وطموحاتها النووية العسكرية. ويستند هذا التوافق للقدرات العسكرية والاستخبارية التي أظهرتها إسرائيل خلال تنفيذها لثلاث ضربات داخل الأراضي الإيرانية في 2024. حلفاء الولايات المتحدة اليوم أكثر توافقاً على هدف الوصول لحل جذري، وليس لحل تسووي ومؤقت، على نحو الاتفاق النووي الموقع في 2015، والذي حدد صلاحيته بـ15 عاماً.
في الداخل الأمريكي، تعهد ترامب بزيادة إنتاج الولايات المتحدة من النفط والغاز. وأوضح للناخبين أن هذه الزيادة ستخفف فاتورة الطاقة داخل الولايات المتحدة. إلا أن زيادة الولايات المتحدة لإنتاجها ستزيد المعروض العالمي من النفط والغاز مما يخفض الأسعار، ويقلل من حماس الشركات الأمريكية لزيادة الإنتاج. فتكلفة الإنتاج في الولايات المتحدة هي من بين الأعلى في العالم، خصوصاً للكميات الجديدة التي تأتي بشكل شبه حصري من التكسير الهيدروليكي للزيوت الصخرية. لهذا فزيادة الإنتاج الأمريكي بشكل مستدام تتطلب تخفيض المعروض في الأسواق العالمية.
ويتحدث مسؤولو إدارة ترامب عن زيادة إنتاج النفط بثلاثة ملايين برميل من النفط يومياً. وهذا يتطلب تخفيض المعروض العالمي بنحو ذلك أو أقل. وكان الجمهوريون في مجلس النواب أقروا في أبريل/نيسان 2024 قانوناً يشدد العقوبات على صادرات النفط الإيرانية، ويعاقب السفن والموانئ والمصارف التي تتعامل بالنفط الإيراني. إدارة بايدن لم تطبق هذا القانون، ولكن من المؤكد أن إدارة ترامب ستطبقه ضمن استراتيجية الضغط الأقصى. وإخراج 1.7 مليون برميل يومياً من الصادرات الإيرانية سيكون مفيداً لمنتجي النفط الأميركيين.
ما سبق يعني أن العوامل الداخلية والخارجية ستدفع ترامب على الأرجح نحو مقاربة أكثر تشدداً بكثير تجاه إيران. وهذا يثير مجموعة من الأسئلة على رأسها طبيعة الأهداف الأميركية التي ستسعى سياسات ترامب لتحقيقها على المدى المنظور.
العديد من الشخصيات البارزة المحيطة بترامب، وعلى رأسهم بريان هوك، مبعوث ترامب السابق الخاص بالملف الإيراني ومهندس العقوبات على إيران، أكدوا أن استراتيجية الضغط الأقصى ستطبق بشكل فوري مع عودة ترامب للبيت الأبيض. إلا أن هوك، وغيره من المسؤولين، لم يكشفوا عن الأهداف التي تنتظر هذه الاستراتيجية تحقيقها، وما إذا كان هناك جدول زمني ما، أو دراسة لإضافة المزيد من الخيارات، بما في ذلك العسكرية منها. مع عدم التصريح بهذه المعلومات، يتوجب علينا الاعتماد على التحليل.
يمكننا توقع ثلاثة مستويات من الأهداف الاستراتيجية لإدارة ترامب في السنوات الأربع المقبلة تجاه إيران. المستوى الذي ستستقر عليه سياسات ترامب سيعتمد على عوامل عدة أبرزها طبيعة ردود فعل إيران. وهي:
أولاً، الاحتواء: عملت الولايات المتحدة على احتواء وعزل إيران منذ الثمانينيات. وفي 1993 تبنت إدارة بيل كلينتون بشكل رسمي استراتيجية الاحتواء المزدوج ضد إيران والعراق. ودعمت هذه الاستراتيجية في السنوات التالية بمجموعة من العقوبات الإضافية، إلا أن الحرب على الإرهاب منذ 2001 شغلت الولايات المتحدة عن تطبيق هذه الاستراتيجية، خصوصاً بعد أن احتاجت إلى التعاون البراغماتي مع إيران في كل من أفغانستان والعراق.
سياسة الاحتواء تحاول ضمان تشديد وإدامة حالة العزلة التي تعيشها إيران، ومنعها من تنمية قدراتها العسكرية والتقنية، وخصوصاً النووية. إلا أن هذه السياسة لا تقدم حلولاً للمشاكل أو التحديات التي تشكلها إيران بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها. فهي لا تشمل تنفيذ ضربات عسكرية، واسعة أو محدودة، أو عمليات استخبارية تخريبية.
ثانياً، التقويض التدريجي: استراتيجية الضغط الأقصى ستضعف إلى حد بعيد قدرة إيران على تنمية قدراتها النووية والعسكرية. وهذا سيجعل الضربات – العسكرية والاستخبارية – الأميركية والإسرائيلية للقدرات النووية الإيرانية أكثر فاعلية. فلن يكون من السهل على إيران تعويض القدرات التي ستفقدها. لم تكشف إيران الفاتورة الفعلية لبرنامجها النووي.
وهناك مثال نادر على تذمر المسؤولين النوويين من عدم إدراك المسؤولين السياسيين لتكلفة المنجزات المطلوبة منهم. ففي 22 ديسمبر/ كانون الأول 2020، انتقد علي أكبر صالحي، رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، إصدار مجلس النواب قراراً ببناء 1,000 جهاز طرد مركزي من الجيل الأحدث ("IR-6") لتخصيب اليورانيوم وقال يومها لموقع "انتخاب" الإخباري إما أن النواب "لا يعرفون حجم مواردنا الداخلية، وإما أنهم لا يعرفون قيمة كل جهاز IR-6". ثنائية العقوبات والضربات الصغيرة التراكمية هي أكثر فاعلية من استراتيجية الاحتواء، ولكنها ستستغرق فترة طويلة، وتزيد احتمالات الرد الإيراني.
ثالثاً، إسقاط النظام الإيراني: حرص المقربون من ترامب، وعلى رأسهم بريان هوك، على التأكيد على أن استراتيجية الضغط الأقصى لا تهدف لإسقاط النظام الإيراني. ولكن هذا النفي بحد ذاته هو ما لفت النظر إلى وجود هذا الاحتمال. السقوط المفاجئ للنظام السوري بعد أن اعتقد العالم – بما في ذلك الولايات المتحدة – أنه تجاوز مرحلة الخطر، وأصبح أقوى من السابق، يشجع بعض الدوائر الأمريكية والغربية على مراجعة تصوراتهم السابقة للنظام الإيراني وقدرته على الصمود.
في الذهن الأميركي، هناك نقطة جوهرية تميز إيران عن سورية وهي أن النظام الإيراني السابق كان حليفاً قوياً للولايات المتحدة ولإسرائيل. وكل فصائل المعارضة الإيرانية موجودة في الولايات المتحدة وأوروبا.
واحتمال ظهور نظام جديد في إيران يكون حليفاً للغرب – وبعيداً عن روسيا والصين – هو احتمال عالٍ. تشديد العقوبات الاقتصادية مع العزلة السياسية، والضربات العسكرية المتفرقة، مع دعم فصائل المعارضة الإيرانية المتعددة، يمكن أن يقدم لإدارة ترامب حلاً جذريًا لمشاكلها مع إيران.
إلى أي هذه المستويات ستمضي إدارة ترامب؟ من المرجح أن تفضل الإدارة بدايةً استراتيجية الاحتواء لكونها تسمح لها بشراء الوقت الذي تحتاجه للتركيز على ملفات أكثر إلحاحاً مثل الحرب الروسية-الأوكرانية والصين قبل أن تنتقل إلى دراسة خيارات أكثر تشدداً ضد إيران.
إيران ستبحث عن أدوات مختلفة للرد على الولايات المتحدة وإسرائيل، وهذا ما سيقابل بتصعيد أميركي وإسرائيلي، بما في ذلك عمليات عسكرية واستخبارية. فتكون النتيجة هي الانزلاق نحو التقويض التدريجي. فيما سيبقى السؤال الكبير هو ما إذا كانت إيران سترضخ وتمضي نحو صفقة كبرى للخروج من مأزقها، أم سيستمر مسار التصعيد ليصار إلى توجيه ضربات عسكرية كبرى للقدرات النووية والعسكرية الإيرانية، فيعتقد النظام الإيراني أن بقاءه أصبح مهددًا، ويتصرف على أساس ذلك؟ وماذا سيكون الرد الأمريكي والإسرائيلي حينها؟ هل سيصبح خيار إسقاط النظام بفاتورته المرتفعة مبرراً؟ لا نملك اليوم أي يقين حول ما ستشهده المنطقة خلال السنوات الأربع المقبلة. ما نعلمه فقط أن تجربة السنوات الأخيرة قدمت لنا مفاجآت تجازوت أكثر التوقعات تشاؤمًا.